استطلاعات الرأي نافذة الحكومات على تطلّعات الشباب العربي

يلتجئ السياسيون وأصحاب القرار إلى استطلاعات الرأي كوسيلة لدراسة وتحليل آراء ومواقف المجتمع وخصوصا فئة الشباب، حيث ترجع غالبية الحكومات العربية، التي تواجه اليوم معارضة ومظاهرات شبابية، فشل سياساتها واستراتيجياتها الموجهة للشباب إلى عدم وعي هذه الفئة والعجز عن مجاراة طموحاتها الجامحة وعالية السقف.
يتساءل المسؤولون في العديد من الدول حول العالم، كيف يمكن أن نفهم الشباب ونتعرف على تطلعاتهم؟ ويدعي البعض أن الفشل في احتواء الأجيال الجديدة، يرجع لصعوبة فك طلاسم عقول الشبان واستيعاب رغباتهم. ومع تعدد الوسائل والمحاولات لتشريح الفكر الجامح للشباب العربي، بدت استطلاعات الرأي الأكثر معرفة بمطالب الشبان وميولهم.
لجأت العديد من دول العالم في العشرين عاما الأخيرة إلى سبر الآراء كوسيلة لفهم وتحليل ما تتطلع إليه المجتمعات والشباب. وكانت استطلاعات الرأي في البداية تهدف للتنبؤ بنتائج فعاليات مثل انتخابات أو قياس مدى تأثير قرارات حكومية محتملة، لكن سرعان ما تحولت إلى علم ودراسة يمكن البناء عليها لتفكيك تركيبات معقدة من تطلعات الشعوب، خاصة القطاع الشبابي الذي يمثل النواة في أغلب الاحتجاجات.
وكان للعرب نصيب الأسد من غضب الشباب الكامن والمتصاعد عبر مظاهرات انطلقت بقوة منذ عام 2011، في الثورة التونسية ولا تزال روافدها مستمرة، في العديد من الدول العربية. وبالتوازي مع حدة التعارض بين التطلعات والمطالب الشبابية وفشل الكثير من الحكومات في احتواء طموحات الشباب وفي السيطرة على غضبه، حاول بعض من الأكاديميين البحث في سبل تحويل آمال الشباب إلى لغة علمية مدروسة واستراتيجيات عمل يمكن البناء عليها.
ويعتبر اللجوء إلى استطلاعات الرأي حلا في طريق السعي إلى تكوين رؤية دقيقة وواضحة حول الشباب، بعد أن حققت نجاحا وفاعلية في العديد من بلدان العالم وقدمت خارطة فهم مبدئية للربط بين الحكومة وشبابها. ولكن ذلك لا يرفع عن استطلاعات الرأي الانتقادات ولا بعض النقائص التي تشوب تحاليلها ونتائجها.
ومؤخرا احتفلت المنظمتان العربيتان، “المؤشر العربي” و”عيون”، بمرور اثني عشر عاما على ظهورهما، كمراكز بحثية متخصصة في سبر الآراء والتعرف على رؤى الأجيال الشابة.
وقامت المؤسستان، بالتعاون مع معهد العلاقات الدولية البريطاني “شاتام هاوس” بإنتاج ما يقرب من 3 آلاف استبيان متخصص للشباب. وبنى كل استبيان قاعدته الاستطلاعية على عينة من 3 آلاف شاب من الفئة العمرية التي تتراوح بين 18 و29 عاما. واختير هؤلاء الشبان من 15 دولة عربية.
وفي كل مرة كانت نتائج العديد من الاستطلاعات مختلفة المواضيع تأتي بنتائج لافتة للانتباه وأحيانا مفاجئة وغير متوقعة، واهتمت بالعديد من المحاور في مجالات مثل تلك التي تخص النظم السياسية والتعليم ومواقع التواصل الاجتماعي والزواج، وغير ذلك من القضايا التي تمس الأجيال الجديدة بصورة مباشرة.
آلية سياسية فعالة
تعتمد الأحزاب وبعض الشخصيات السياسية في الكثير من الأحيان وخاصة إبان الحملات الانتخابية على نتائج استطلاعات الرأي وأرقامها لتحويل خطابها السياسي وتسعى لبناء استراتيجياتها وأهداف على أساس هذه النتائج.
ويقول الباحث المصري، عاصم شرف الدين، الذي يعمل منذ خمسة أعوام مع منظمة “المؤشر العربي”، واشترك في العديد من استبيانات الشباب، إن الأرقام والإحصاءات في الاستطلاعات التي عقدت خلال آخر ثلاثة أعوام تستحق دراسة عميقة، ويجب أن تكون على مكتب كل مسؤول عربي.
ويضيف في حديث لـ”العرب”، أن الدول الغربية باتت تعتمد على سبر الآراء كآلية مباشرة لاتخاذ القرارات وتغيير القوانين واختيار المسؤولين، “وفي دول مثل سويسرا والسويد وبعض الولايات الأميركية، يتم استخدام الاستبيانات حول القرارات المحلية قبل اعتمادها للتأكد من قبولها من قبل السكان والأهالي”.
ويشير شرف الدين، إلى أن الشباب في بعض الدول المتقدمة نجحوا في إلغاء أو تعديل أو تغيير الكثير من القرارات الخاصة بالقرارات المصيرية مثل تلك المتعلقة بالميزانية العامة بفضل حملات دعت للتصويت في استبيانات ضد قرارات الحكومة.
ويؤكد الباحث المختص في مجال استطلاعات الرأي أنه في بلادنا العربية والتي يمثل فيها الشباب الشريحة الأكبر، ما زالت تقنيات سبر الآراء في حاجة للدعم لفهم طبيعة ورغبات وتطلعات الأجيال الجديدة، لأن النتائج التي أسفرت عنها بعض الاستبيانات كانت مفاجئة، وبعضها جاء عكس التوقعات مثل استطلاع موقف الشباب حول الأديان.
وأثار استطلاع رأي أجري في العام 2018 محور علاقة الدين بالسياسة في البلدان العربية، الكثير من الجدل، حيث ذكرت النتائج أن ثلثي المشاركين في الاستطلاع رأوا أن الدين يلعب دورا مؤثرا في المنطقة، ولكن 79 بالمئة أشاروا إلى أن المؤسسات الدينية في بلادهم تحتاج للإصلاح، وانقسموا بشأن طبيعة تأثير الدين، واتفق 50 بالمئة مع عبارة “أن القيم الدينية في العالم العربي تعيق تقدمه” في حين لم يتفق معها 42 بالمئة.
استطلاعات الرأي تعد أحد أبواق الشباب للتعبير عن أنفسهم في بلدان عربية تنخفض فيها أدوات التنفيس، وقد تقدم قراءة تحليلية لمواجهة مخاطر لها أبعاد قومية وأمنية
وتساءلت الكثير من التقارير الإعلامية والتحليلية عن علاقة ونظرة الشاب اليوم إلى الدين وطرحت بعضها مواضيع من قبيل “هل يتجه الشباب العربي إلى إدارة ظهره للدين ولرجاله؟”.
وتقول الأكاديمية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ليلى علي، إن الاستبيان الخاص بقياس علاقة الدين بالدولة أثار الجدل لأنه اقتحم قضية شائكة يخشى كثيرون التحدث عنها ومناقشتها والبحث فيها أيضا.
وتضيف في تصريح لـ”العرب”، “المثير في الأمر لم يكن الاستبيان، لكن آراء ومواقف الشباب المستطلَع، والذي جاء عكس ما يروّج له المسؤولون بأنه سطحي وساذج، فقد عكس كما هائلا من التناغم بين اهتمامات الشباب وطريقة إدارة الشأن السياسي والديني في بلدانهم”.
وتعتبر علي أن أهم ما يمكن قراءته من نتائج الاستطلاع، هو حجم حيرة جيل يعيش عصر التقدم التكنولوجي والتواصل الحضاري، وفي نفس الوقت يتعامل مع مؤسسات دينية لم تطور نفسها. وجاء الانقسام واضحا بين شخص يميل نحو فصل الدين عن السياسة، وآخر لا يزال يرى أن الدين جزء من مناحي الحياة، لكنه يشعر بأن رتابة المؤسسات الدينية القائمة هي التي عكست النموذج السيء للتداخل بين الدين والسياسة.
وفي جميع الأحوال اتفقت الأغلبية العظمى من الشباب على ضرورة تجديد المؤسسات الدينية، بغض النظر عن اتجاهها أو لون عقيدتها.
ويلعب سبر الآراء بمختلف أنواعه دورا أكبر من الناحية الاجتماعية التي تبدو في البلدان العربية أكثر تأثيرا وفاعلية من السياسة في التغيير.
ولفت أحمد عفيفي، شاب في نهاية العقد العشريني، إلى أن القضايا الاجتماعية وما ينتج من إحصاءات وآراء عينات من الشباب تخصها تبدو أكثر سهولة من ناحية دمجها ودفعها لتحقق التأثير المطلوب على قرارات الحكومات العربية.
مؤثرات اجتماعية
يمثل استبيان أجرته منظمات عربية بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة في مصر في العام 2016، على عينة تضم أكثر من عشرة آلاف شاب، لمعرفة مواقفهم من تعاطي المخدرات، نموذجا حيا على قدرة الاستطلاعات الشبابية على تحقيق تغير ملموس في الساحة الرسمية.
وأظهرت النتائج وقتها اتفاق الغالبية العظمى من الشبان على سهولة الحصول على المخدر، وتزايد الإقبال عليه، ورأى 65 بالمئة منهم أن أسباب التعاطي تتعلق بالشعور بالاكتئاب والإحباط والفشل.
وتسببت تلك الإحصاءات في عقد مؤتمر ضخم حضره مسؤولون، ونتج عنه إطلاق حملة واسعة للتوعية بالإدمان وإنشاء خط ساخن لمساعدة المدمنين على التعافي، وحققت الحملة وقتها نتائج كبيرة.
وكشف عفيفي، لـ”العرب” أن “سهولة تنفيذ إصلاحات اجتماعية بناء على الاستطلاعات الشبابية مقارنة بالسياسية، تعود إلى نظرة الحكومات التي ترى أن للسياسة قدسية لا يفترض المساس بها، ولا يتم تعديلها إلا من قبل القادة وأصحاب النفوذ والقرار، وهناك عشرات الأمثلة التي تدل على قوة المؤثرات الاجتماعية على حساب المؤثرات السياسية والاقتصادية”.
وجاء اهتمام الحكومة المصرية العام المنصرم بالصحة النفسية بعد استطلاع رأي كشف عن تنامي المشاكل النفسية لدى الشباب، بإطلاق حملات حكومية للكشف المجاني، متناقضا مع عدم استجابة المسؤولين لاستطلاع آخر في العام ذاته قال إن الحكومة ما زالت تهيمن على الإنتاج رغم زيادة دور القطاع الخاص في العقد الأخير.
وكان استبيان عام 2018 قد ذكر فيه ثلث الشباب أنهم يعرفون شخصا على الأقل يعاني من أزمة نفسية، ورأى 80 بالمئة من الشبان المشاركين أنه من الصعب الحصول على رعاية طبية جيدة لمشكلات نفسية مثل القلق والاكتئاب في البلاد العربية.
البعض يشبه استطلاعات الرأي بكنز ضخم يحتاج إلى الكثير من التنقيب للوصول لمعلومات قيّمة توضح الطريق لفهم الواقع والتنبؤ بمستقبل الأجيال الجديدة
بينما ذكر استبيان آخر أن الشباب يؤمنون بدور مهيمن للحكومة، وذكر غالبيـتهم أنه من مسـؤولية الحكومـة توفيـر الخدمـات والحمايـة لجميـع المواطنيـن، بمـا فـي ذلـك التعليم والرعايـة الصحيـة ودعـم الطاقـة والوظائـف والإسـكان، ورأى ثلث الشـباب العربـي أن علـى الحكومـات سـداد ديون جميـع المواطنيـن.
وتشير أستاذة علم الاجتماع بجامعة لبنى عزيز، إلى أن نتائج استطلاعات آراء الشباب تخضع للكثير من القراءات، لاسيما في ما يخص استبيان دور الحكومة، لكن أهم ما يمكن فهمه أن الشباب العربي – وعكس ما يقال عنه دائما في الإعلام بأنه متمرد ويميل لهدم النظام – أظهر أنه يدعم ويريد الاستقرار وينتظر من الحكومات تحسين أحواله المعيشية.
وقالت في تصريحات لـ”العرب”، “صحيح أن بعض الاستطلاعات تعكس تردد الشاب في تغيير ذاته، وتصويب خياراته ومراجعة طموحاته مقابل رغبته في إلقاء المسؤولية كاملة على شخص آخر أو جهة أخرى، حيث كشفت النتائج رغبة البعض في أن تسدد الحكومة ديونه، لكن في النهاية يظل استطلاع الرأي مؤشرا هاما للإصلاح الاقتصادي، وفهم تطلعات الشباب”.
استجابة سريعة
طالبت عزيز بضرورة الاستجابة للاستبيانات بسرعة، باعتبارها مسألة شديدة الأهمية، لأنها تتعامل بشكل طارئ مع وضع المجتمع وأحلام شبابه، وتشبه خارطة طريق جاهزة لكل مسؤول عربي للبدء في حملة إصلاح وتعديل السياسات الأساسية، وقالت “التعامل مع النتائج في استطلاعات الرأي لا يحقق استقرارا اجتماعيا فقط، بل يجنب الحكومة الفوضى والاحتجاجات والإضرابات، وهو ما يعني مكاسب مشتركة للشباب والمسؤولين”.
وتعد استطلاعات الرأي، أحد أبواق الشباب للتعبير عن أنفسهم في بلدان عربية تنخفض فيها أدوات التنفيس، وقد تقدم قراءة تحليلية جيدة لمواجهة مخاطر وقضايا لها أبعاد قومية وأمنية.
وتولي الحكومات العربية اليوم، ومن بينها المصرية، اهتماما خاصا بمواقع التواصل الاجتماعي، لكنها لم تنجح بصورة كاملة في مواجهة تحدي الشائعات ومجابهة الخطاب التحريضي على المنصات الإلكترونية الذي يستهدف إثارة الشباب ضد سياساتها.
وكشف “المؤشر العربي” العام الماضي عن إحصائية مفادها سيطرة مواقع التواصل بصورة شبة كاملة على المنصات التي يستقي منها الشباب الأخبار، واختار أكثر من 80 بالمئة من العينة، مواقع التواصل كمصدر رئيسي لمعرفة الخبر والمعلومة بالمقارنة باستبيان مشابه أقر بأن نحو 70 بالمئة في عام 2015 يتخذون منصات التواصل بوابة أولى للمعلومات الإخبارية، ما يعني زيادة احتكار الإنترنت للمعلومة والخبر على حساب وسائل الإعلام التقليدية.
وبالرغم من أن المعلومات الأساسية غير مثيرة أو جديدة، غير أنها تبين المقطع الأهم في أسباب ارتباط الشباب العربي بالمواقع الإلكترونية.
وجاءت الإجابات غير متوقعة مع تراوح الأسباب بين الكسل في القراءة وعدم الثقة في صانعي الأخبار في الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية، بالإضافة إلى سهولة أخذ المعلومة من المواقع الإلكترونية، لأنها تأتي ضمن تصفحهم التقليدي والمعتاد لتلك المواقع، أي أن الأمر لا يرتبط ببذل مجهود إضافي لمعرفة أخبار العالم.
ويشبه البعض استطلاعات الرأي بكنز ضخم يحتاج إلى الكثير من التنقيب للوصول لمعلومات قيّمة توضح الطريق لفهم الواقع والتنبؤ بمستقبل الأجيال الجديدة.
وتكمن النقطة المشتركة بين غالبية الاستبيانات التي تركز على الشباب العربي، في إبراز وكشف الصورة النمطية المغلوطة عن فئة الشباب، حيث تظهر أحلامهم وطموحاتهم الحقيقية وتبين أنها لم تعد قاصرة أو سطحية، كما يحاول أن يصورها البعض، وهي في الحقيقة أفكار مشروعة لجيل براغماتي بات لا يؤمن بالمثاليات أو الشعارات الرنانة، وكل ما يتمنى تحقيقه التطلع لمستقبل أفضل مبني على النزاهة والشفافية والوضوح.