"لبغداد NH4+": عرض عراقي يدعو للتفكير في عالم ما بعد الموت

المخرج العراقي علي دعيم يبحث في عمله المسرحي الراقص مسألة الموت وما بعده وفق تصور جمالي مربك.
الأربعاء 2019/12/18
كل إلى مصيره يسير

تابع عشاق الفن الرابع ضمن فعاليات الدورة الحادية والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، الأخيرة، عرضا لمسرحية عراقية بعنوان “لبغداد+NH4” للمخرج علي دعيم، وهو العرض الأول أمام الجمهور.

يرى المسرحي الشهير ويليام شكسبير أن “الدنيا مسرح كبير وكل الرجال والنساء ما هم إلاّ ممثلون على هذا المسرح”، ممّا يعني ربّما أن هذه الحياة تحمل في أيامها وسنواتها أعمالا مسرحية خالدة، بعضها كوميدي والآخر تراجيدي، بعضها واقعي والآخر خيالي، بعضها فردي والآخر يجسده جمع من الممثلين، وكلّ هذه المسرحيات ستعرض يوما ما أمام جمهور كبير.

من زاوية نظر قريبة من هذه الفكرة ينظر المخرج العراقي المسرحي علي دعيم إلى الأمور الحياتية للإنسان بنظرة المحلل، فيدرس في كل عمل من أعماله المسرحية مسألة قد يتغافل عنها الإنسان، حتى أنّه اختار في آخر أعماله “لبغدادNH4+” أن يبحث في مسألة الموت والحساب.

ولم يكتف دعيم بمهمة الإخراج فقط، بل أشرف أيضا على دراماتورجيا ونصّ العمل الذي قام بأدوار البطولة فيه كلّ من مرتضى علي وعلاء قحطان وفكرت حسين ومؤمل حيدر ومصطفى نبيل وسهيل نجم.

من تعرّض شخصيتين في العالم الواقعي إلى انفجار حدث فجأة وما زال يتكرّر في مشاهد مُشابهة في العراق وبلدان أخرى يأخذنا العمل المسرحي إلى المأزق الأكبر، إذ تحاول إحدى الشخصيتين مساعدة الأخرى للنجاة، لكنّ أنانية الإنسان تدفعه إلى التفكير في نفسه والتخلي عن الآخر، فيتركه لمصيره، لا صاحبه يشفع له ولا أهله وبنوه.

فالموت، تلك المسألة الجوهرية في حياة الإنسان، وخاصة الموحّدين ممّن تقرّ أديانهم بالآخرة والعقاب الإلهي، تحمل في داخلها كمّا هائلا من الأسئلة الوجودية والمصيرية التي يفكّر فيها عقل الكبير والصغير، الرجل والمرأة على حدّ السواء، فمن منا لم يتخيّل يوما كيف ستكون حياته بعد الموت؟ هل فعلا سيحمل أوراقا لا تحصى ولا تعدّ قد دوّنت فيها الملائكة كل أفعاله وحركاته وسكناته؟ وكيف سيكون شكل هذه المخلوقات وما تحمله؟ هل سيجد نفسه مذنبا معاقبا أشد العقاب أم محسنا؟ وكيف سيستقبله الله وما هي حجته في ما جنت يداه؟

وينقلنا المخرج إلى عالم البرزخ أو عالم القبر وعذابه وإلى يوم الحساب وهنا نشهد العالمين، عالم الحياة وعالم الموت، العالم الواقعي والعالم الميتافيزيقي.

العمل المسرحي العراقي يأتي كمنبّه للمُشاهد بنهاية إنسانية حتمية لطالما نسيها أو تغافل عنها الجميع

وانطلاقا من إيمانه بأن اسم العمل يعتبر أول العناصر التي تبعث في الإنسان الحيرة والسؤال، فقد اختار علي دعيم لعمله المسرحي عنوان "لبغدادNH4+ "ويبدو أنّ فيه رمزية عميقة وغير محدودة تترك للمُشاهد المجال فسيحا في أن يبلور تحليلا ذاتيا للعنوان ويربطه بموضوع العمل.

وربما يختزل هذا العنوان انطلاقا من خصائص الأمونيوم (NH4+) فكرة أن الإنسان يتكوّن من مجموعة تراكمات فكرية ومعرفية تتجمّع وتختفي حسب نموّه وتطوّره، كما تحيلنا إلى فكرة أن الإنسان ما هو إلاّ مجموعة من الأفعال والأقوال، وأيضا فكرة الموت والبعث، فالإله سيجمع الناس ليوم معلوم كذرات الأمونيوم المتناثرة ليتجسّد في هيئته الأصلية ويلقى حسابه. وكما يعمل الأمونيوم كمنبّه للتربة القلوية، ها هو العمل المسرحي العراقي يأتي كمنبّه للمُشاهد بنهاية إنسانية حتمية لطالما نسيها أو تغافل عنها الجميع.

يفتتح المخرج العراقي علي دعيم مسرحيته بمشهد العزاء الذي حمل للمتلقي التونسي في الدورة الحادية والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، المنتهية الأحد، فكرة عن هذه المواقف الحياتية المؤلمة وكيف يعيشها العراقي.

ويقف الممثل بلباسه الأسود وذلك الشال الملفوف حول رقبته في زاوية المسرح اليمنى، وربط الشال بهذه الطريقة يوحي حسب التقاليد العراقية أن الميّت أحد إخوته، ليشرع في تقبل العزاء في لحظات مملة ومتكررة أشبه بالواقع المرير على الإنسان.

وكلّما غاب المعزّون، علا صوت القرآن مذكّرا بـ“الحاقّة” ليجسّد الممثل في حركات كوريغرافية بعضا من اللطيمات المنسجمة مع طريقة الترتيل بما فيها من إطالة واختصار.

ولأن غاب النصّ المسرحي كليا في هذا العمل، فقد حضرت الإشارات الرمزية من نصّ قرآني و“قوالة” لنسوة يبكين الميّت فيسمعها الجمهور غير واضحة، ليحضر أيضا جسد الراقصين بما تحمله حركاتهم من دلالة، ويحضر الإله، أيضا، الذي يلعب دوره الممثل العراقي علاء قحطان، وهو يحاسب كل امرئ بما يحمله كتابه.

ويبدو المخرج العراقي علي دعيم في هذا العمل متمسّكا بفكرة لطالما آمن بها وهي أنّ لغة الجسد أكثر تعبيرا وصدقا من كل اللغات، إذ يرى في حركة الممثل  قدرة رهيبة ولا محدودة على رسم الأفكار بطريقة أبلغ من الكلام.

وقد أتقن الممثل سهيل نجم الذي لعب دور المُعاقب أغلب مشاهده، الأمر الذي جعل الجمهور يصدّق شدّة العذاب التي يعانيها حتى أنهم صفقوا له مرات عديدة خلال العرض كما تجهّمت وجوههم راغبة في إنقاذه من نهايته المأساوية في أكثر من مرة.

وكي يكون العمل المسرحي سهل التقبّل لدى المتلقي، خاصة في غياب النصّ، عوّل المخرج على السينوغرافيا وما يمكن أن تضفي التقنيات الصوتية والبصرية من حركية تخدم المسار العام للمسرحية، وقد اقتصر ديكور العرض على الحبال والورق وبعض اللفائف البيضاء التي تشير إلى الكفن، وفي خلفية المسرح يقبع الإله وهو يستقبل كل ميت جديد فيفصل عنه كفنه ويعاقبه مستعرضا أمامه ما يحمله كتاب أفعاله.

Thumbnail
Thumbnail
16