مازن خداج يعلن خروجه من دائرة الوسط ليقتحم التجريد

تشكيلي لبناني يستعرض عبر مادة "الغواش" صراع الذات بين الوعي والروح، ويقاطع تقنية تفكيك الجسد لينغمس في تشكيل يستمد بعضا من عناصره من التجريدية.
الثلاثاء 2019/04/09
إيقاع صاخب بين الإنهاء والابتداء

“أنتهي كي أنطلق”، هو عنوان المعرض الجديد الذي قدمه الفنان اللبناني والمتعدد الوسائط في صالة “رميل” البيروتية التي أخذت على عاتقها تقديم فنانين ناشئين ومتابعة تطور مسارهم الفني، وفي المعرض يقدم خداج مجموعة من اللوحات الفنية وعروض الفيديو التي تعبّر عن التجربة الروحية التي مرّ بها مؤخّرا، بعد قضائه ثلاث سنوات في لايبزيغ، ألمانيا، والتي جعلت معتقداته تتبدّل وتتّخذ أبعادا جديدة.

بيروت - يعد الفنان التشكيلي اللبناني مازن خداج من دون شك من الفنانين الذين تقدمت وتحولت أعمالهم الفنية وتنوعت عبر السنين، وإن تناولت جميعها بنسب مُختلفة مسائل اجتماعية وعاطفية وسياسية تمس كل فرد منا، وتمسه هو بشكل خاص لاسيما من خلال التناقض الذي تتميز به.

تناقض لا يزال الفنان يصارعه رغم وصوله إلى شاطئ ما ألقى فيه حمله واستراح أغلب الظن إلى حين، قبل أن يُكمل ترحاله في مغاور ذاته التي ما فتئت تكشف له عن صراعات وأسرار جديدة.

ويقول الفنان اللبناني عن معرضه الأخير الذي أقيم في صالة “رميل” البيروتية والمعنون بـ“أنتهي كي أنطلق” إنه “نتيجة صراع طويل وتأمل حول الهوية الشخصية وكيفية العثور على هيكلية واضحة أتبناها للعيش بشكل عام، إن كان ذلك في لبنان، أو في ألمانيا، أو في أي بلد آخر”.

وتكاد أن تكون مادة “الغواش” التي يستخدمها خداج في معرضه الجديد الذي يضم أعمالا متعددة الأحجام لاسيما المتوسطة، هي العنصر الأقوى من ناحية حضورها ولناحية اهتمام الفنان بها، فـ“الغواش” رافق خداج منذ بداية رحلته الفنية بداية بدراسته المتمركزة حول التصميم الإعلاني، مرورا بمعارضه الفردية والجماعية المُتتالية وصولا إلى دراسته الحالية في مجال الفن.

تغزل بـ"الغواش"

من اللافت جدا سماع مازن خداج وهو “يتغزل” بهذه المادة التلوينية، التي غالبا ما يعتمد عليها مصممو الإعلانات، ويرى فيها فنانون كُثر غير ما يقول الفنان حول قدرتها على نقل الغنى والكثافة الحسية. ولكن على الرغم من استخدام خداج لمواد مختلفة في لوحاته إضافة إلى “الغواش”، يبقى هذا الأخير طاغيا إلى أقصى حد، غير أن ألوانه تبدلت كثيرا، فخلافا لمعارضه السابقة “قاطع” مازن خداج الألوان الصاخبة التي كان يستخدمها سابقا، ربما لأنه قاطع أيضا الاختباء خلفها وخلف بهرجتها في محاولات متمردة للتعبير عن آراء ومواقف شخصية تتعلق خاصة بمسائل الجندر وغيرها من المسائل الشائكة في لبنان.

اللون الأسود يستخدمه الفنان اللبناني بابتكار وبراعة وتنوع، ليس كمادة ملونة بل كمادة أولية، رمزية ومقدسة

كما قاطع الفنان تقنية تفكيك الجسد وتفادي وضعه كاملا في لوحة واحدة لينغمس في تشكيل يستمد بعضا من عناصره من التجريدية، حيث تطوف الألوان الجامدة والهادئة وتلتف على ذاتها وتنطلق من بعضها البعض بشكل متواصل يصعب على زائر المعرض مهما تمعّن في الأعمال أن يعثر فيها على نقطة الانطلاق أو محطة نهائية.

ويشير خداج إلى أنه خلال إقامته الأخيرة في مدينة لايبزيغ الألمانية عصفت به صحوة روحية جبّارة ألهمت أعماله الفنية الأخيرة، حيث وقع الرسام في أسر عالَمَي الوعي والروح؛ ووجد نفسه مأخوذًا بأفكاره وتأمّلاته حول الاحتمالات اللامتناهية والأساطير الروحانية التي تلف تلك المفاهيم.

وتألفت أعمال الفنان بشكل أساسي من خطوط مغلقة أو شبه مُغلقة وملئها بالألوان الداكنة حينا والباهتة حينا آخر، لتصبح بذلك ما يشبه حلقات متداخلة هي دوامات تحمل توقيع مازن خداج.

يُذكر أن الفنان ابن عائلة درزية تتمسك بالتقاليد ولديها مفاهيم راسخة من الصعب على شاب حساس كمازن خداج أن يثور عليها دون أن يُفهم من ثورته عكس ما أراد، وربما لأجل ذلك تمَ منع عمل من أعماله تناول فيه خلفيته الدينية بشكل أُسيء فهمه.

ولا بد من الإشارة إلى تلك الحادثة إن كنا بصدد تناول أعمال الفنان الأخيرة، خاصة تجهيز الفيديو الذي قدمه عبر عرض عدة أفلام قصيرة وضعها خداج مُتقابلة في هيكل معدني مؤلف من عدة أعمدة ما بينها فراغات تسمح لزائر المعرض أن يدخل إلى قلبها ليُنقل نظره من فيلم إلى آخر حتى يكتمل ظهور الأفكار المتصلة ببعضها البعض.

أفكار متعلقة بالهوية الجنسية والوجود الإنساني والضغوطات المُجتمعية التي تكوّن الفرد ويكوّنها حينما يتبناها أو يرفضها.

ويُمكن اعتبار هذا التجهيز الفني -رغم أنه ليس الأول الذي أقامه خداج، فقد استخدم هذا الأسلوب في التعبير الفني في معارض فردية سابقة- من أهم ما قدم، وهو عمل يتقدم بأشواط على اللوحات التي جاورت التجهيز.

ويُساهم هذا التجهيز في توضيح الأفكار التي أراد الفنان التعبير عنها من خلال لوحاته، لوحات لم تكن وفية لما أراده خداج منها فصمدت على جدران الصالة دون اشتغال فني فيها، وهي تنتظر من الفنان أن يفككها كلاميا أمام زواره لكي تبدأ باكتساب المعنى قبل أن تدخل من جديد وبسرعة إلى عتمة الإدراك.

لون مقدس

تجهيز فني عن الأسر الضاغط
تجهيز فني عن الأسر الضاغط

يأتي عنوان المعرض “أنتهي كي أنطلق” ليؤكد من خلاله مازن خداج على إيقاع البحث والعثور، وعلى الإنهاء والابتداء، إيقاع لا يتوقف إلاّ لكي يستمر دائرا في أفق لوحاته.

ويلعب اللون الأسود دورا أساسيا في التجهيز الفني، ويستخدمه الفنان بابتكار وبراعة وتنوع ليس كمادة ملونة بل كمادة أولية، رمزية ومُقدسة، فهو الجلد البشري وهو الروح وهو العالم الخارجي والعالم الداخلي وهو الانعتاق والأسر الضاغط.. وكل ذلك يشكله مازن خداج في تماس منقطع النظير مع أفكاره ومشاعره.

ومن المؤكد بأن الفنان غادر مرحلة الما بين ونصف الإفصاح عن هواجسه، كما صمم ووضع معادلة جديدة له ولمسار حياته الشخصية والفنية استطاع بها أن ينزع فتيل تفجر التناقضات التي عاشها في بلده لبنان وفي قلب بيئته الضيقة، قبل أن يغادر إلى ألمانيا وتحديدا إلى مدينة لايبزيغ حيث يتابع دراسته الفنية إلى الآن.

يُذكر أن مازن خداج من مواليد بيروت في العام 1985، ومتحصل على ماجستير في التصميم الغرافيكي من الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا، وإلى جانب فنه عمل في مجال هندسة الديكور، كما اشتغل طوال سنوات مديرا فنيا لعدد من الشركات الإعلانية الأجنبية والمحلية قبل أن يتفرغ إلى فنه الخاص، وهو الذي شارك أيضا في العديد من المعارض الجماعية، منها مشاركته في معارض في تركيا وألمانيا ولبنان والبحرين، وله 5 معارض فردية سابقة في مختلف المناطق اللبنانية، وهي تحمل عناوين رمزية تشير إلى نمط تفكير الفنان وتطور مساره الفني كـ“روابط”، و“الحالة الوسطى” و“المشاعر المتحركة” و“أنا غريب” وأخيرا “أنتهي كي أنطلق”.

16