فنانة لبنانية ترسم قوارب العودة بخطوط التلاشي

الفنانة اللبنانية عفاف زريق تفرض على الأسود والأبيض التحفظ على مشاعرهما الخاصة لتملي عليها أشكال التعبير الذي تريده.
السبت 2019/03/09
أجواء مُشبعة بسحر التلاشي

احتضنت صالة “صالح بركات” البيروتية معرضا للفنانة اللبنانية المتعددة الوسائط، عفاف زريق، ضم مجموعة من الأعمال المشغولة بألوان الباستيل والحبر والفحم وضعتها تحت عنوان “رحلات العودة”.

بيروت - نص الفنانة اللبنانية عفاف زريق الذي قدمته مؤخرا بصالة “صالح بركات” البيروتية لا يسهل تلقيه للوهلة الأولى على أنه عبارة عن أعمال متكاملة ترصد عبرها مسار وجدانها الذي عبر عدة بحار وتكسر على شطآن وجود بشري يتربص به الألم والخيبات من كل جهة، بل تبدأ تدفقات هذا العالم الذي يسكن الفنانة وتسكنه، يتقدم نحو زائر المعرض شيئا فشيئا ليظهر أمامه أكثر ضبابية وتمنعا عن الإفصاح، آخذا المُتفرج، ربما، إلى يقين من أن الفنانة اللبنانية ترسم أولا وأخيرا لها، وربما، لقلة من مُشاهدين رضخوا لترنح برطوبة أجوائها المُشبعة بسحر التلاشي.

غير أن أهم ما يتركه نص الفنانة الشخصي جدا في نفس زائر معرضها من أثر هو تفتح براعم الرغبة المُلحة في مُساءلته لذاته حول قيمة الأشياء الأرضية، وماهية الألم الإنساني الذي يعبر في شرايين العمر رذاذا خفيفا، ولكن أسيديًّا لا يلبث أن يتلاشى، ومع ذلك ليس قبل أن يكون حفر أو دمغ أو هشم مسارات عبوره.

ويكثر استخدام الفنانة اللبنانية عفاف زريق للون الأسود والأبيض في معرضها المعنون بـ”رحلات العودة” وتتفنن في استنطاقهما وجعلهما أكثر تعبيرا من الألوان الأخرى عن كل حالات النفس من سعادة وطمأنينة وحزن وألم. وهي لا تتعاطى معهما إلاّ بوصفهما نبضا يتصاعد أو ينهار، يتباطأ أو يتسارع بعيدا عن كليشيهات الانطباعية وغنائيتها الفياضة.

وفي انغماسها بهذا الإيقاع الشخصي تُعبر الفنانة عن الحنين، ولكنه حنين يبدو وكأنه إلى أشخاص غامضة وأماكن مجهولة بالنسبة إليها من شدة تراجعها عنها وتأملها فيها من مسافة عاطفية هائلة.

وربما ما يقف وراء هذا الانطباع الذي تتركه الفنانة في نفس مُشاهد لوحاتها مُجتمعة هو هذه “المُصالحة”، إذا صح التعبير، التي توصلت إليها زريق مع كل التجارب المؤلمة، أو تلك المُحزنة لأنها غادرت دون عودة. مُصالحة تحمل في ثناياها إلى جانب جمالية خاصة، خطورة “نقصان” واضح، إذ أن نص الفنانة الذي لا فكاك فيه، استسلم إلى نوع من الخدر جعله في أحيان كثيرة منقوصا من الزخم، نصا باردا، لا بل مُثلجا يُذكر بتحجر الكائنات الحية في صخور الجليد.

الكثير من المُسالمة والمُصالحة تبدوان وكأنهما أفقدتا أعمال الفنانة الدفء، الدفء الذي تراجع مدحورا أمام “توهج” السكينة وفي انزلاق تحت رايات سلام داخلي “أصم” أبيضه فتاك وترابه غبار وهشيم.

أعمال عفاف زريق تبدو أمام الناظر إليها مسكوبة من جرن كريستالي عتيق حرصت الفنانة على ترميم أدنى تكسراته و”تعثراته”، فاستحال إلى شاهد على عمليات الترميم المُضاعفة التي تعرض لها على مدى السنين فانتفت شفافية اللوحات وهي في أوج حضورها الظاهري/ المادي.

أبيض فتاك ترابه غبار وهشيم
أبيض فتاك ترابه غبار وهشيم

تطلق الفنانة على مجموعة من لوحاتها عنوان “الحياة هي رواية مُرعبة ومُستمرة”، تضم المجموعة لوحات بقياسات موحدة ومتراصة تذكر بمربعات لعبة “الكلمات المُتقاطعة”، غير أن الفنانة الراسمة لقوانين اللعبة لا تنتظر من اللاعبين/ المُشاهدين أن يضعوا كلماتهم/ بصماتهم في مربعات تلونت بالأبيض إلى جانب لوحات/ مربعات أخرى طغت عليها خربشات عاطفية مُتحفظة مشغولة باللون الأسود.

فقد حفرت الفنانة “وشوشاتها” في كلا النوعين من المربع ليبقى الإيقاع بين تراصفهما جنبا إلى جنب يحيلنا إلى دقات قلب متجانسة تستلهم في تجلياتها الإحجام أكثر من الإفصاح.

علاقة عفاف زريق بالألوان علاقة غير تقليدية، فهي تفرض على هذه الألوان التحفظ على مشاعرهما الخاصة لتملي عليها أشكال التعبير الذي تريده، أو تسمح به لا شعوريا. تكاد الألوان التي تجد طريقها إلى لوحاتها لا تتعدى ثلاثة ألوان، وإن حضرت في المعرض مجموعة لوحات “ملونة” للفنانة، وهي ليست ربما أفضل ما قدمت من اللوحات.

عالم زريق هو ما بين الألوان، على مشارفها وعلى القمم المُطلة عليها من غير حسرة، ولعل أكثر ما يشير إلى أسلوبها المميز في استخدام الألوان لوحات متجاورة عنونتها الفنانة بـ”وجاء الصباح رويدا رويدا”، فما وجده زائر المعرض في هذه اللوحات هو كيف يكون اللون ليس مادة يلوّن بها، بل هو “الصابغ والمصبوغ” على حد السواء.

للفنانة مجموعة لوحات أخرى بالغة الصغر (25 لوحة) تحت عنوان “ظلال”، وهي تجسد وجوها مُبهمة الملامح وضعتها زريق جنبا إلى جنب في قلب قالب من “البيكسي غلاس”.

هنا أيضا تظهر قدرتها على إيصال عملية “التطهير” إلى خواتيمها، بالرغم من أن الفنانة تجد في تلك الوجوه تباينا في التعبير عن حالات نفسية مختلفة، إلاّ أن ما يطغى هنا هو الجمود الذي عكفت الفنانة على صناعته في مشغلها الوجداني على مدى سنين طويلة.

وتبدو تلك الوجوه مُشتركة في قدر واحد: قدر الاحتراق من دون صوت ومن دون نار، إنها وجوه تشبه من ناحية صور الضحايا التي “يدكها” رجال الشرطة في مغلفات مفتوحة على جدران مكاتبهم، ومن ناحية ثانية تشبه هذه الوجوه بصمات كربونية هي كل ما تبقى منها، تغلفها الفنانة في حضن بلاستيكي شفاف ضابط يمنع الرطوبة والغبار والهواء من الدخول إليها، هكذا تُحفظ الذكريات التي لم تعد إلاّ خيالاتها من التحلل.

بشكل عام تقوّض الفنانة اللبنانية عفاف زريق وفي كل لوحاتها مواطن استيعابنا التقليدي لماهية الزمن، فمسألة التأريخ لو طُرحت على لوحاتها لنفت مصداقيته لناحية ما يقدمه من تجزيء زمني مبني على تتالي الماضي والحاضر والمستقبل.

ومن هناك تشتبك الأزمنة مع بعضها البعض في نسيج لوحات الفنانة ويُقرأ النبض الضئيل الصاعد إلى صفحات لوحاتها أفقيا وعموديا، لذلك تبدو لوحاتها بعظمتها أشبه بهرطقة شعرية لا تريد أن تلتزم إلاّ بما تنصّ عليه خيالاتها وانطباعاتها الناجية من تجارب السنين.

13