بابا نويل يُهدي الحياة إلى عرائس ديزني لاند في القاهرة

مسرحية "مدينة الثلج" تخاطب الأطفال بلغة رمزية وترصد تجمد البشر في عصر الآلات.
الأحد 2019/02/24
بابا نويل يقود ثورة التغيير

لا يترك المسرح وترا إلا ويعزف عليه أنغامه السحرية التي تعبّر عن جماليات خاصة لا تتوفر سوى على خشبة “أبوالفنون”، وتكشف في الوقت نفسه أوجاع الواقع المعيش وأزمات الإنسان المعاصر. من هذه الأوتار النغمية الحسّاسة مسرح الطفل الاستعراضي، وإليه ينتمي عرض “مدينة الثلج” الذي شهدته القاهرة 18 فبراير الجاري، وفيه يصارع بابا نويل طواحين الهواء طويلا، إلى أن ينتصر على اليأس، ويوزع على الحاضرين هداياه وابتساماته وأحلامه.

لا يكتفي المسرح الراهن برسالة الإمتاع والتشويق والجمال المجرد، إنما يأخذ في اعتباره بوضوح الرغبة في التأثير على المتلقي، وإحداث قدر من التغيير الوجداني، وهذا ما أعلن عنه صراحة صُنّاع العرض المسرحي “مدينة التلج” (النطق العامي المصري لمفردة “الثلج”)، إذ أشاروا في بطاقة المسرحية إلى أنها دعوة إلى “تغيير المود”، أي تحسين الحالة المزاجية للمتلقي، وهذا ما نجحوا فيه بالفعل عبر أبجديات مسرح الطفل المتطورة التي خاطبت أفراد الأسرة جميعا.

لم يتأتّ هذا التغيير النفسي من القتامة والحزن واليأس إلى التوهج والبهجة والتفاؤل فقط بسبب هدايا بابا نويل العينية التي بدا كأنه يوزعها على جمهور العرض على خشبة مسرح “تياترو آفاق” بالقاهرة، وإنما حدث التغيير الفعلي بسبب انتشار حالة الحب وتسلل روح الأمل إلى القلوب بفعل أحداث المسرحية.

مسرح العائلة

جاءت المسرحية في إطار تجربة جديدة تحت عنوان “مسرح اليوم الكامل للعائلة”، وقدم المسرح عرضين متتاليين؛ الأول “مدينة الثلج” للأطفال والناشئة، والثاني “شبابيك” للشباب والكبار، ومؤلف العرضين معا هو محمود جمال حديني، بينما هناك مخرجان؛ محمد جمال (مدينة الثلج) وعبدالخالق جمال (شبابيك).

بدا هذا التقسيم مراوغا إلى حد كبير، فالمسرحية الأولى لم تقتصر على استقطاب الأطفال حول مفرداتها الفنية وأفكارها المطروحة، وإن كانت تتوسل عناصر مسرح الطفل وأدواته، خصوصا الشخصيات الكارتونية من العرائس واللعب والأقنعة والاستعراضات المرحة وتبلور الأحداث حول شخصية طفلة صغيرة لعبت بطولة العرض، إلى جانب بابا نويل “كلمة السر” المفتاحية على مدار العرض.

حملت المسرحية لغة رمزية متطورة، لها ملامح الحاضر ورائحة المستقبل، على اعتبار أن طفل اليوم ليس هو الذي كانت تجري مخاطبته قديما بحواديت قبل النوم وحكايات “حبايبنا الحلوين”، بل هو طفل التكنولوجيا والإنترنت والمدارك الواسعة المطلعة، ومن ثم تعاملت المسرحية مع المتلقي عموما بوصفه واعيا مكتمل النضج والأهلية، يستشعر أوجاع ذاته، ويتفهم مشكلات مجتمعه وواقعه الإنساني.

الحلم هو الهدية الحقيقية
الحلم هو الهدية الحقيقية

انطلقت المسرحية من ذلك الصراع بين المادة والروح، الكتلة والطاقة، العرائس/اللعب/الروبوتات والبشر، الأرقام والمشاعر، دقات الساعة ونبضات القلوب، في محاولة لتدفئة الإنسان وتحريكه من جديد بعد تجمّده سنوات في عصر الآلات والأرقام.

لم يكن الأمر سهلا، فبابا نويل موزّع الهدايا لا يستطيع إيقاف كائن الموت أو تأجيله، لكنه من الممكن أن يصارع طواحين الهواء طويلا، ويساعد الراغبين في بلوغ المعنى الحقيقي للحياة، إلى أن يتمكنوا من قهر اليأس، واسترداد ذواتهم.

هذه الرسائل، جرى تمريرها وتفعيلها ونقل تأثيراتها وأصدائها إلى نفوس الحاضرين بسلاسة، من خلال حكاية طفولية بسيطة، تمثلت في استشعار فتاة صغيرة بأنها على وشك الموت، وتملك الحزن منها، الأمر الذي دفع بابا نويل إلى التعاطف معها لمساندتها، ليس بدرء الموت، فهذا ليس من سلطاته، وإنما بملء أيامها بالبهجة والتفاؤل والمعنى الحقيقي للحياة، فهذا بحد ذاته إطالة للعمر، ومد لإشعاعات الحياة، لدرجة أن الحيوية دبت في أجساد المحيطين بالفتاة جميعا.

سعى العرض إلى تفكيك الأسطورة لخدمة الواقع، وليس العكس، للإعلاء من قدرات الإنسان، وإذكاء ثقته بذاته، فبابا نويل ليس ساحرا يفعل المعجزات، لكنه رجل عادي يرتدي ملابس مبهجة، وهو “فكرة لا تموت”، كما قال عن نفسه في العرض، والأفكار ملك البشر.

وراح الشخوص، وعلى رأسهم الطفلة المريضة، يتحسسون تباعا الطريق إلى جوهر الإنسان، ولب الحياة، وتلك هدايا بابا نويل الحقيقية التي وزّعها عليهم خلال العرض، وعلى جمهور الحاضرين، وصارت لدى كل فرد القناعة بأن زمن التحنيط يجب أن ينتهي، ليعيش الإنسان تلقائيته وحريته وبهجته غير المشروطة في ظل إرادة كاملة غير منقوصة.

الحيلة التي ابتدعها بابا نويل لإسعاد الطفلة، التي سمّاها “هدية”، هي أنه ذهب بها إلى “مدينة الثلج”، التي يسكنها المتجمّدون من اللعب والعرائس، مشترطا عليها أن تكون هي لعبة أو هدية لهذه العرائس، وليس العكس، وعلى الطفلة هدية أن تختار أتعس العرائس لتكون هي هديتها، وأصبحت الطفلة بالفعل هدية للتمثال جيمي، ومن خلال علاقتهما معا، تكشفت تفاصيل عالم العرائس والتماثيل.

الإنسان المعاصر

جوهر الإنسانية ومعنى الحياة
جوهر الإنسانية ومعنى الحياة

رسم العرض صورة الإنسان المعاصر الغارق في التسليع والميكنة والمادية من خلال شخصيات العرائس، فهم مصطنعون زائفون، يولدون بلا أرواح، وتحكمهم البرمجيات والقوانين المحركة كالروبوتات، ومن خلال بهجتهم بلعبتهم الجديدة “الطفلة هدية”، بدأوا يستردون إنسانيتهم المفقودة تدريجيّا، ويتعرفون على الدموع والابتسامات ونبضات القلوب ومسار الزمن للمرة الأولى في حياتهم، وكذلك فهموا معنى الموت.

وبعد وصولهم إلى اكتمال إنسانيتهم، بكل مفردات الإرادة والتحرر والاستقلالية والقدرة على الحركة والتغيير، بلغت هدية وبابا نويل ذروة رحلة السعادة والنجاح، وفي الوقت ذاته دنت هدية من الموت، لكنها استطاعت أن تترك وراءها إرثا عظيما من الحيوات الكثيرة الخالدة، في عالم لن ينسى آثارها الباقية أبدا.

تناسقت فكرة العرض مع رشاقته وخفته من حيث الأداء، فهناك طفولية في التمثيل، بمعنى البراءة والتلقائية، لدى الطفلة هدية وبابا نويل، وكذلك العرائس، التي أبدعت في التعبير عن التغيرات المصيرية في شخصياتها، في مرحلة القولبة والألينة والتحرك الهندسي المحسوب، ثم في مرحلة الآدمية والانطلاق والرقص والخطوات الحرة الجريئة.

ملأ الممثلون فضاء المسرح بالحركة والاستعراضات البصرية الجاذبة، واتسم الحوار بالدينامية وروح الفكاهة والدعوة الدائمة إلى الخصوبة والتفاؤل، وقدمت السينوغرافيا والأقنعة والملابس دلالاتها المرجوّة من حيث تصوير عالم مدينة الثلج الساكن البارد، الذي تسكنه شخصيات متنوعة، منهم الشاب جيمي والساحرة والجد العجوز والمهرج والرجل الأخضر والراقصة.

وفي النهاية، زعم ممثلو العرض أن زلزالا قد حدث في المكان، وفي حين أن الشواهد لم تثبت حدوث زلزال فعلي، فإن الجميع أكدوا إحساسهم به، الأمر الذي يوحي برغبة العرض في فرض هزته الوجدانية على الحضور إلى أبعد مدى، ومد نطاق الخلخلة النفسية والحث على التغيير وتجاوز الواقع السيء إلى غد مشحون بالآمال، لا مكان فيه للثلج.

13