ريما أميوني توصد باب العزلة بالألوان

عادت الفنانة التشكيلية اللبنانية ريما أميوني بمعرض جديد لها في صالة “أجيال” البيروتية يحمل “اثنين في واحد”. تقدم الصالة المعرض بهذه الكلمات المُختصرة والمُعبرة عن أجواء عالم الفنانة “يعدّ محتوى المعرض امتدادا للمناظر الطبيعية الجبلية الشاعرية في معرض ‘الجنة المزهرة’، استنادا إلى البيئة المباشرة للفنانة في ما يظهر على أنّه حالة ذهنية أكثر منه مكانا محدّدا، عبر لوحات مشرقة وفرحة وزاهية تظهر منطقة اليرزة اللبنانية كمكان ريفي بعيدا عن القلق وضغوط الحياة اليومية”.
بيروت - في المعرض الجديد للفنانة اللبنانية ريما أميوني الذي تحتضنه صالة “أجيال” البيروتية والمعنون بـ”اثنين في واحد” نعيد اكتشاف كيف يمكن للنص البصري أن يكون مُستنسخا ذاته من ضمن الأفكار والألوان والخطوط ذاتها، ولكن في صيغة جديدة من حيث كيفية تجميعها أو تأطير تجاورها إلى جانب بعضها البعض كي تبدو كأنها “اثنان في واحد”.
وعلى الرغم من هذا العنوان الذي يزعم بثان مجاور للأول معهود، رأيناه سابقا في لوحاتها، لم تكن اللوحات المعروضة جديدة مُقنعة من هذه الناحية (وليس عليها أن تكون كذلك).
لوحات ريما أميوني لم تعرف حتى الآن إلاّ أن “تؤم” ذاتها وألاّ ينبثق منها إلاّ.. ذاتها، ليس في ذلك أي تهميش من قيمة الأعمال بقدر ما هو تأكيد أن عالم الفنانة المُستعاد في كل معرض من معارضها هو نوع من المُراوحة في فضاء أمين لن يعكر صفوه تبدل، هو مرتبط ربما بشكل حصري بمخاطر تستبعدها الفنانة اللبنانية بريشتها وألوانها عن عالمها المسحور الذي تحتضنه وتخاف عليه وتحميه من العالم الخارجي، وعلى الأغلب، ليس من ذاتها كما عند بعض الفنانين.
عالم أميوني تصنعه لذاتها كتعويذة “للصبر والسلوان” ولا يريد أن يكون غير ذلك، ربما هو صبر على ما عرفته الفنانة قبل أن تأخذ القرار أو يأخذها القرار إلى الدخول لمنزلها الهادىء وحديقتها الجميلة، وعدم مُغادرة هذا البرزخ الأرضي إلاّ وقتيا، شرط أن يكون مصحوبا بلوحات هي جديدة/ قديمة تقدّمها لجمهورها.

وضمن هذا السياق تقدّم لنا أميوني مثالا واضحا ومباشرا عن الفرق ما بين الفن التشكيلي النابع من الفنان الذي يخشى العالم الخارجي، وهو في مهادنة مُرعبه مع ذاته بعيدا عن كل التحولات الضرورية لتطوير أي تجربة شخصية، وبالتالي أي تجربة فنية، وبين الفنان الذي يريد أن يحمي عالمه الفني، من ذاته قبل أن يحميه من العوامل الخارجية المؤثرة فيه.
هكذا فن كالمذكور آنفا، لا بد أن يرشح عنه، في لحظة أو في أخرى، وفي ومضة تجلّ تختلف عن غيرها، مفتاح خفي ليس على مُتأمل اللوحة إلاّ أن يطاله كي يفتح به بابا سريا يأخذه إلى عوالم تختلف جدا عما وجده مبدئيا على سطحها، أو “على خط دفاعها” الأول.
وغالبا ما تكون هذه العوالم المخفية أو المُتدثرة تحت مهرجان لوني صاخب في عوالم جهنمية ينخرها حزن وجودي ما، غير مرتبط بالضرورة بظروف وحوادث اختبرها الفنان على أرض الواقع.
الباب، أو الأبواب التي ترسمها الفنانة، وليس تلك الافتراضية التي يتوجه إليها الناظر إلى لوحات فردوسية لفنانين آخرين بعد أن عثر على مفتاح سحري، قد تكون من أهم العناصر البصرية التي نزخر بها لوحات الفنانة السابقة والأخيرة.
إنها أبواب مُشكلة ببساطة ووضوح، ولكنها موصدة بشكل كامل ولا تدعي احتمال وجود مفاتيح وأسوار شبه مغلقة، وهي لا تغري أي مُشاهد لها إلى تخيّل ماذا يوجد من خلفها؟ إنها أبواب شكلية لا تفضي إلى أي مكان.

على أبعد تقدير هي أبواب تفضي إلى “موصدات” أخرى ذات ملامح لونية مختلفة وشكلية هي الأخرى، كما هي الأبواب التي تُرسم في المدن الكرتونية أو “الرزينية” المُشيدة خصيصا لتصوير فيلم من أمامها، غير أن أبواب ومنازل ريما أميوني لا تهدم بعد أن ينتهي العرض، بل تبقى منتصبة مُعلنة انغلاقها الذي لا يتبدل بصريا إلاّ كلما جددت الفنانة وضع طبقات المادة الملونة فوق الطبقات حتى الإختناق، وكلما زرعت من حولها بريشتها النباتات والأشجار، أو استدعت ألوانها الفجة إليها لكي تتسلق الجدران والأبواب في لوحاتها فتظهر مُورقة ومُزهرة بكثافة، تزيد من عزلة المشاهد وعزلة الفنانة على السواء.
اعتدنا على الفنانة ريما أميوني، على خروجها كل سنتين أو أكثر من عزلة عالمها الفني، كمن يخرج من حديقة مسحورة، كي يقدم إلى جمهوره الوفي مجموعة لوحات تعبيرية جديدة لا تمل أيضا ومجددا من التحدث عن هذا العالم الذي تعيشه بين جدران منزلها في اليرزة (جبل لبنان)، وما يحيط به مباشرة من حديقة غناء محروسة بأحجية عكفت الفنانة على كتابتها ورصها في خامات ملونة شديدة الإحكام.
تعنون الفنانة لوحاتها كما ترسمها بمباشرة لافتة، فتعيد توصيف ما تراه عين الناظر إلى لوحاتها ولكن بالكلمات المكتوبة، نذكر من العناوين “نسوة بريش الطاووس” و”دير القمر” و”غرفتي” و”شجرة التين” و”مشهد مديني 1” و”مشهد مديني 2”.
وتبدو “مدن” ريما أميوني، أو المشاهد المدينية في هاتين اللوحتين لا تختلفان عن أجواء اللوحات الأخرى، أحكمت الفنانة “الطباق” عليهما بوردية بهيجة يكاد المُشاهد أن يشتم عطورها الباذخة، طباق يبعد الفنانة عن المدينة ويبعد المدينة عن فكرة التقدم نوحها، أي نحو الفنانة، هكذا، وإلى ما لا نهاية لن يتم اللقاء بينهما.