احتفاء بفن الحياة يمتد من القاهرة إلى باريس

تسعى قوة مصر الناعمة إلى استعادة بريقها ونصاعتها في الداخل والخارج عبر مشاركتها الفعّالة في المحافل الدولية وانفتاحها على مصابيح التنوير والإشعاع الحضاري في العالم الغربي، ويأتي العام الثقافي المصري الفرنسي الذي انطلق مؤخرا خطوة إيجابية في مسار التواصل الإنساني مع الآخر عبر برنامج حافل يمتدّ بين القاهرة وباريس ويحتفي بفن الحياة.
القاهرة – لم تعد الثقافة واجهة شكلانية أو مرآة للترف والرفاهية، لكنها بمفهومها الحديث مكوّن جوهري لقدرة الدولة الحقيقية الممثلة بقوتها الناعمة، وهي تلك الطاقة السحرية التي يناط بها التأثير والجذب والإقناع والدعاية وكسب الرأي العام المحلي والعالمي وخلق صورة حضارية للدولة وشخصية قيادية.
وهكذا تقف الثقافة على الأرضية ذاتها التي تقف عليها الدبلوماسية وسائر الإجراءات والآليات المدنية والإستراتيجية التي لا تقل أهمية وتأثيرا عن القوى التقليدية والعسكرية.
خارج الوصاية
في هذا الإطار، تمخضت التفاهمات المشتركة، المصرية الفرنسية، على مستوى القيادات السياسية عن انطلاق برنامج ناعم حاشد تحت عنوان “مصر فرنسا.. عام ثقافي مشترك”. ومن خلال هذه النافذة الثنائية تلوح فرصة ذهبية لمثقفي مصر وأدبائها وفنانيها لطرح كلمتهم المأمولة خارج الجدران والأسوار الضيقة ومحاولة استعادة مصر النهضة من جديد.
ويحمل العام الثقافي المصري الفرنسي 2019، الذي جرى تدشينه رسميا في 8 يناير الحالي، على عاتقه مسؤولية منح الفرصة كاملة للثقافة الحرة المستقلة للتعبير عن نفسها، بلغة الإنسان المتجاوزة للحدود، وبإرادة الجرأة والتجديد المتمردة على الأنساق والخارجة عن هيمنة المؤسسات الثقافية الرسمية والفعاليات النمطية محدودة الرؤية والأفق، وتمتد خارطة العام الثقافي لتشمل إبداعات وفنونا متعددة.
وعلى الرغم من أن العام الثقافي انطلق من رحم المشهد السياسي، في أعقاب اللقاءات الثنائية التي جمعت الرئيسين عبدالفتاح السيسي وإيمانويل ماكرون في باريس في أواخر 2017 وأسفرت عن منظومة اتفاقيات وأفكار بدأت ترى النور تباعا، ومع أن افتتاح العام الثقافي في المسرح الكبير بدار الأوبرا في يناير الحالي انعقد بمظلة رسمية، فإن ملامح فعاليات هذا البرنامج الثقافي تبدو متحررة من قيود التظاهرات الرسمية الضيّقة، العقيمة والروتينية.
وربما يفسر هذا الأمر أن إدارة مقاليد العام الثقافي المصري الفرنسي لم تُعهد بشكل مُطلق إلى مسؤولي وزارتي الثقافة والآثار بمصر، ولا إلى تلك الهيئات واللجان سيئة السمعة التي تهيمن على النشاطات المحلية بموظفيها ومنتفعيها، وإنما دخل الجانب الفرنسي على الخط بقوة، من خلال ممثليه، وعلى رأسهم “المركز الثقافي الفرنسي” بالقاهرة، وهو كيان مرموق وله باع في إعداد وتنظيم برامج ثقافية وفنية في حقول الأدب والفكر والفنون البصرية.
وتتّسع قاعدة الشركاء المنخرطين في صناعة هذا الحدث الدولي بشكل كبير، وهؤلاء الشركاء الممثلون للمؤسسات الأهلية والمنظمات المدنية والمجموعات الاقتصادية وغيرها، ينتمون إلى فضاء الثقافة، وعالم الإنسانية الأرحب، والثقافة في منظورهم منتج معرفي وإبداعي لا يقبل الوصاية، ويقترن نجاحه بجودته واستقلاليته وعمقه وجاذبيته، وهذا النجاح له مؤشران: الوصول إلى الناس بمضمون راق متميز، والقدرة على المنافسة بمنطق السوق وقوانين العرض والطلب.
“فن الحياة” أحد مجالات البرنامج الثقافي والفني الزاخم الذي ينعقد بين مصر وفرنسا على مدار عام كامل.
ويمكن اعتبار هذا المجال تحديدا فلسفة وشعارا للعام الثقافي كله بمفرداته وعناصره المتعددة، فالإبداعات التي يراهن عليها البرنامج في عمومها هي إبداعات الهواء الطلق المستقاة من حيوية الحياة وحركتها الواسعة ونبض البشر.
تجليات إبداعية
هل يقدر أحفاد الفراعنة القدماء، وأبناء مصر النهضة في النصف الأول من القرن العشرين، على استغلال فرصة انعقاد العام الثقافي المصري الفرنسي، من أجل استعادة وهج قوة مصر الناعمة، ومد نطاق تأثيراتها الفاعلة إلى الخارج من جديد؟
هذا هو الرهان الأساسي المنعقد على العام الثقافي “مصر- فرنسا”، ومما يزيد من إمكانية الإفادة من هذا الحدث، خصوصية العلاقات الثقافية المصرية الفرنسية وتجذرها عبر أكثر من قرنين من الزمان، وطبيعة البرنامج الثقافي ذاته بأجندته المنطوية على تجليات عدة جرت صياغتها خارج الصندوق.
ويحمل العام الثقافي المشترك إشارة إلى عمق هذه العلاقات الثنائية، من خلال إحياء الذكرى الـ150 لإنشاء قناة السويس، التي افتتحت رسميا في العام 1869، وتعود فكرة هذا الشريان المائي الأهم بمصر إلى العلماء الفرنسيين الذين وفدوا إلى مصر مع حملة نابليون بونابرت في العام 1798، ولهؤلاء أيضا دور كبير في بناء مصر الحديثة، بجهودهم التي أسفرت عن فك رموز حجر رشيد، وتعريف المصريين بالطباعة والعلوم والآداب والفنون الحديثة، والكثير من عناصر التفوق والمدنية.
ولوجه فرنسا الحضاري انعكاسات وظلال ملموسة لدى مفكري “مصر النهضة” وأدبائها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، خصوصا أولئك الذين توجهوا إلى باريس في بعثات علمية، ومنهم رفاعة الطهطاوي وطه حسين.
ولا يزال لفرنسا تأثيرها في المشهد المصري الراهن من خلال تمددات الفرنكفونية في الفلسفة والآداب والفنون، كذلك فإن باريس تعتبر الشريك الأول في مجال الآثار المصرية، من خلال بعثاتها ومعهدها الدائم للآثار بالقاهرة والمركز الفرنسي المصري لدراسات معابد الكرنك.
وهذه العناصر يمكن أن تكون ممهِّدة لنجاح العام الثقافي “مصر- فرنسا”، ويبقى البرنامج نفسه بأجندته وتطبيقاته خلال الأشهر المقبلة.
وتبدو النظرة الأولية لخارطة البرنامج إيجابية، فالفعاليات متنوعة، ومبتكرة، وتفسح مجالا للشباب والتجارب الجديدة، كما أنها تفاعلية، تنبني على التبادل والأخذ والرد، وتعطي الجمهور حقه من الوجود والمشاركة.
العام الثقافي المصري الفرنسي هو أشهر قليلة من الإسهامات المعرفية والعلمية والأدبية والفنية، لكنها قد تكون نوافذ إشعاعية مؤثرة في مسار القوة الناعمة المصرية، إذا أحسنت استثمار الحدث.