مهرجان الموسيقى الكلاسيكية يضيء قاهرة محمد علي

قد لا يفهم شخصان مختلفان في اللغة بعضهما البعض إذا ما تحدث كل منهما بلسانه الخاص، لكن نفس هذين الشخصين سيفهمان ويتذوقان معزوفة موسيقية أيا كان منشأها من أقاصي الشمال أو الجنوب من الشرق أو الغرب من السواحل أو من ضفاف الأنهار، أيا كان منشأ الموسيقى فإنها “لغة” يفهمها الجميع، أيا كان لسانه وأيا كانت ثقافته أو انتماؤه أو هويته. لذا تعتبر الموسيقى أكثر الفنون قدرة على توحيد البشر حول قيم الجمال والقادرة على محو اختلاف اللسان أو العرق أو الدين أو الجنس، إنها المحقق الأول للتسامح والتعايش الإنساني. وإيمانا بدور الموسيقى السحري هذا، يأتي مهرجان الموسيقى الكلاسيكية الدولي بالقاهرة رسالة سلام من مختلف أنحاء العالم.
القاهرة - تشهد القاهرة أوركسترا السلام والمحبة بحضور فنانين من أنحاء العالم، ضمن فعاليات مهرجان الموسيقى الكلاسيكية الدولي الذي يقام على مدار تسعة أيام في قصر محمد علي التاريخي برعاية الاتحاد الأوروبي ومراكز ثقافية أجنبية.
عندما تتحدث الموسيقى، تصير اللغات كلها قاصرة عن مجاراتها في بث رسالة المحبة والسلام والتواصل الإنساني، فالأنغام والإيقاعات هي لغة القلوب والشعوب المشتركة، التي تقرّب المسافات، وتذيب الحواجز، وتخلق فرصة ذهبية للتجاور والتحاور والتسامح.
في هذا الإطار، يعلق مهرجان الموسيقى الكلاسيكية الدولي بالقاهرة آماله على سيمفونيات الجمال والدفء والإخاء التي يقدمها فنانون من أرجاء العالم، لتفعيل التواصل الثقافي، وتعزيز التقارب بين البشر.
تسعى القوى الناعمة المصرية من خلال هذه الكرنفالات الدولية إلى استرداد إشعاعاتها التنويرية الغاربة ومدّ نطاق تأثيرها داخليّا وخارجيّا من جديد.
“عبقرية المكان”، بحد تعبير جمال حمدان، هي كلمة السر التي يراهن عليها “مهرجان قصر المنيل الدولي الأول للموسيقى الكلاسيكية”، الذي ينعقد في القاعة الذهبية بـقصر محمد علي التاريخي بالقاهرة، في الفترة من 1 إلى 9 نوفمبر المقبل بحضور موسيقيين من مصر وبريطانيا وألمانيا والنمسا وفرنسا وأرمينيا وإيطاليا وإسبانيا والتشيك.
سفراء الفن
يستلهم المهرجان طبيعة المكان الأثري الساحر بهدف إسباغ عمق روحي وتاريخي على الموسيقى الكلاسيكية التي تطلقها أصابع العازفين المهرة، ولذلك السبب يسمى المهرجان باسم المكان التاريخي الذي يقام فيه. و”جمعية أصدقاء متحف قصر المنيل”، التي تنظم المهرجان، هي جمعية أهلية يرأسها الأمير عباس حلمي، حفيد الخديوي عباس حلمي، وابن أخي مؤسس قصر المنيل الأمير محمد علي توفيق.
يقع قصر الأمير محمد علي (الابن الثاني للخديوي توفيق) على نهر النيل بجزيرة الروضة في القاهرة، على مساحة تتجاوز ستة آلاف متر مربع، ويعود بناؤه إلى مطلع القرن الماضي، ويشكل تحفة معمارية بالفنون ذات التأثيرات الفاطمية والمملوكية والعثمانية والأندلسية والفارسية والشامية، وجرى ترميمه على مدار عشر سنوات قبل افتتاحه في ثوبه الجديد في عام 2015 كمتحف للعمارة والفنون الإسلامية.
يأتي مهرجان الموسيقى الكلاسيكية الدولي كملتقى لسفراء العالم، في أوركسترا للسلام والمحبة بلغة الفن السامية، ويتوازى إطلاق الأنغام المعتقة مع عرض مقتنيات متحف قصر المنيل العريقة، لتتجسد الحالة التاريخية فيه بجانبيها المعنوي والملموس على مدار ثماني حفلات مبهرة.
تتحقق المشاركة المصرية في أمسيات المهرجان من خلال مغني الأوبرا حسن كامي، وعازف البيانو رمزي يَسا، والميزو- سوبرانو جالا الحديدي، والسوبرانو فاطمة سعيد، وعازفة الكمان المصرية- النمساوية نادين ويبر، والأوركسترا المصري للحجرة بـقيادة المايسترو أحمد الصعيدي.
ويُلاحظ أن التمثيل المصري يضم فناني الصف الأول في الموسيقى الكلاسيكية، ممن لهم حضور داخلي، وبعضهم يمتد نشاطه خارج مصر، الأمر الذي يعكس رغبة إدارة المهرجان في استثمار هذا الكرنفال لتقديم حضور مقبول للمشهد الموسيقي المصري والقوة الناعمة، ودعم التواصل مع الآخر الغربي في احتكاك مثمر.
ويشارك في المهرجان من أوروبا عازف البيانو الإنكليزي دافيد هلسز، والصولو الإيطالي المايسترو لوكا مارزيالي، والمايسترو الأرمني- الفرنسي عازف البيانو فاهان مرديروسيان، وعازف البيانو التشيكي جارومير كليباك، وثنائي الحجرة التشيكي بافيل بورديش وسوزانا بريسوفا، والموسيقي الإسباني برجا كويزا، والمايسترو عازف البيانو الألماني ماركوس ميركل، والمايسترو عازف البيانو الإسباني فرناندو بريونس.
كما يتجلى التشارُك المصري- الأوروبي في المهرجان على الصعيد الإداري أيضا، فهو مموّل من الاتحاد الأوروبي، وترعاه إلى جانب وزارتي الآثار والثقافة وبعض الشركات بمصر، سفارات ومعاهد ثقافية أجنبية، منها: سفارات إسبانيا والتشيك وسلوفاكيا، والمراكز الثقافية لكل من فرنسا وإيطاليا والنمسا.
ويجد قارئ أوراق مهرجان الموسيقى الكلاسيكية أنه بالإضافة إلى التواصل الحضاري الدافئ، وإثراء المشهد الموسيقي في مصر، فإن ثمة مكسبا إضافيّا يسعى المهرجان إلى تحقيقه، إذ يعدّ المهرجان فرصة لإعادة افتتاح متحف مقتنيات الأمير محمد علي للجمهور.
وتوضح بسمة حامد مسؤولة الإعلام في إدارة المهرجان أن متحف قصر المنيل يضم نوادر فن الخط العربي والسجاد اليدوي في العالم، والمجموعة النباتية الخاصة بالأمير محمد علي توفيق، التي جمعها خلال جولاته حول العالم، وهو ما يشكل طقسا جماليّا إضافيّا يدعم نجاح مهرجان الموسيقى.
وتقول بسمة في تصريح لـ”العرب” إن المهرجان “سيحرص كذلك على استثمار مناسبتين مهمتين، يجري الاحتفاء بهما خلال انعقاده، هما: ذكرى مرور 149 عاما على افتتاح دار الأوبرا المصرية، وسيُحتفل بها في 1 نوفمبر القادم، والذكرى الـ134 لميلاد الأمير محمد علي، وسيُحتفل بها في الـ9 من نوفمبر”.
موسيقى كلاسيكية
يأتي مهرجان الموسيقى الكلاسيكية كأحد الكرنفالات الدولية المستجدة، التي تسعى من خلالها القاهرة إلى استرداد عافيتها، وبث إشعاعاتها التنويرية في الداخل والخارج، بعد سنوات من الاضمحلال وامّحاء الأثر.
وقد شهدت الفترة الماضية إطلاق مهرجانات عدة في هذا الإطار، منها: مهرجان أيام القاهرة للموسيقى المعاصرة، ومهرجان سماع الدولي للإنشاد والموسيقى الروحية، ومهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة (دي- كاف)، وغيرها.
ويُعزى الفضل إلى الجهود الأهلية والجهات المستقلة والأجنبية في محاولة إلقاء حجر في الماء الآسن، لتحريك حالة الجمود التي تسيطر على المشهد الفني والثقافي بمصر، الذي تسيطر عليه مؤسسات رسمية متكلسة يديرها موظفون وبيروقراطيون، وتفتقر سياساتها إلى الابتكار والخيال والتفكير خارج إطار الصندوق.
ويعاني الحاضر الموسيقي الراهن بمصر ممّا يمكن تسميته بالتلوث السمعي، حيث غابت التيارات الطليعية المؤثرة، حتى بين جدران دار الأوبرا التي احتفلت منذ أيام بعيدها الثلاثين، وتجيء أغلبية الحفلات الموسيقية والسيمفونية والأوركسترالية وغيرها استعادية لأعمال عالمية، وكذلك حفلات الموسيقى العربية، وتتمحور المؤلفات الموسيقية المصرية حول الدراما التمثيلية أو الغناء التقليدي.
ويطمح مهرجان “الموسيقى الكلاسيكية” إلى تجديد دماء هذا النمط الفني العريق، من خلال التفاعل الحي مع المدارس الأجنبية المتطورة في أوروبا، وكبار المؤلفين والعازفين العالميين، وذلك بهدف دفع حركة الموسيقى بمصر إلى الأمام، وربطها بالمسار العالمي المتقدم.