الموسيقى وطن يوحّد الثقافات والعقائد

تلتقي أنغام العالم فوق أرض مصرية في العديد من المهرجانات الدولية، بهدف استعادة الروح بالموسيقى والتطهر من التلوث السمعي، وتبقى الأذن باحثة عن هويتها الغائبة في عصر تراجعت فيه الفنون، وتآكلت الشخصية الثقافية والخصوصية الشعبية بفعل العولمة.
السبت 2018/09/29
موسيقى روحية بأكثر من هوية

القاهرة – وسط ما يتردد عن إنسانية الفنون ووحدة الأصول والركائز التي تنطلق منها الثيمات الإبداعية في سائر أرجاء العالم خصوصا في محراب الموسيقى الروحية والدينية، فإن مظلة الالتقاء البشري الواسعة تتضمن مساحات من التنوع والاختلاف بين الكيانات المحلية، فلكل منتج شعبي أصيل بصمته.

في سنوات التراجع التي بسطت فيها العولمة سيطرتها على سائر المجالات، ومنها الفنون السمعية، تعاني الأذن المصرية في تحسّس هويتها وسماتها المميزة، إذ لم تعد الموسيقى المصرية على عهدها من حيث وضوح الملامح الخاصة وتبلور الشخصية المستقلة وامتداد التأثير.

وفي خضم الفعاليات والكرنفالات الفنية والموسيقية التي تشهدها مصر بمشاركات عربية وأجنبية، وأحدثها مهرجان سماع الدولي للإنشاد والموسيقى الروحية في دورته الحادية عشرة التي انطلقت في الـ22 من سبتمبر الجاري وتنتهي السبت 29 من الشهر ذاته، يفرض السؤال الجوهري ذاته حول مساحات الالتقاء والاختلاف بين الموسيقى المصرية وغيرها لدى شعوب العالم.

وتثار أيضا تساؤلات أخرى متعلقة، حول ما يتوسله المستمع المصري من صلوات الأديان والثقافات الأخرى في محراب الموسيقى، وهل لا تزال الموسيقى المصرية لها خصائص تميزها عمّا سواها أم أن عولمة الفنون السمعية قادت إلى الانصهار والذوبان، وإلى التلاشي التدريجي للذات، الذي من شواهده ضعف تأثير القوة الناعمة داخليا وخارجيا؟

جاءت منطلقات مهرجان سماع الدولي، الذي شهدته القاهرة أخيرا، لتكرّس للمفاهيم المشتركة التي تكاد تصل إلى حد التوحّد والتطابق بين ألوان الموسيقى الروحية والدينية حول العالم، حيث التقى الفنانون والمنشدون والموسيقيون من دول العالم في قلب القاهرة التاريخية عاصمة الأديان تحت شعار “رسالة سلام”، بهدف تعزيز التواصل الإنساني وتعميق الحوار الحضاري بين البشر.

ومن خلال عروض محلية وعربية وأجنبية في مسارح وأمكنة مفتوحة وأثرية، راهن المهرجان على إمكانية أن يخلق الفن وطنا، على اعتبار أن الموسيقى الروحية التي لا حدود لها قادرة على استيعاب أطياف وألوان متفاوتة من البشر، من ذوي الجنسيات والأديان المختلفة، إذ يجدون مساحة التقاء أكثر اتساعا في الأنغام والإيقاعات المشتركة، بما يعزّز اندماجهم الإنساني.

هشام جبر: الموسيقيون المصريون قادرون على العودة والتجدد ومواصلة الإشعاع
هشام جبر: الموسيقيون المصريون قادرون على العودة والتجدد ومواصلة الإشعاع

هذا التوجه، أمكن تحقيقه عمليا في تجارب فنية مبتكرة شهدها مهرجان “سماع” في دوراته السابقة، منها تقديم فريق أميركي من ذوي البشرة السمراء حفلات موسيقية تمتزج فيها ترانيم الكنائس وأجراسها، مع أذان المساجد، وتسابيح المتصوفة، وقد التقت في تجارب مشابهة هذا العام فرق من الدول المشاركة، ومنها: سوريا وتونس والسودان والأردن والجزائر والهند والصين واليونان والكونغو وغيرها من الدول.

هذه الرؤية التي تميل إلى توحيد الفنون والثقافات والمفاهيم وأيضا العقائد (هيا نغني معا، هيا نصلي معا)، والتي لها دور إيجابي ملموس في دعم التواصل الثقافي والتسامح الديني ومواجهة التطرف، لا تتعارض مع فلسفة الموسيقى الأعمق، التي تراعي الخصوصيات والهويات المحلية والشعبية الأصيلة بقدر حرصها على المشترك الإنساني، وهنا تقول الموسيقى المصرية: مَنْ أنا وسط الحشود؟

قال المؤلف الموسيقي المايسترو هشام جبر، الحاصل على وسام “فارس” في الفنون والآداب من الجمهورية الفرنسية، لـ”العرب”، إن الجينات المصرية، خصوصا المتعلقة بالثقافة والفن، قادرة دائما على النهوض وابتعاث الذات من جديد بعد الكبوات الطارئة، فالقوة الناعمة لا يغطيها الرماد إلى الأبد، وإنما قد تكمن فيه بعض الوقت حتى تسترد عافيتها وتستعيد حضورها المتوهج وتأثيرها الممتد، شأنها شأن طائر العنقاء الذي لا يعرف الامّحاء والفناء.

وأشار جبر، الذي أسّس مجموعة القاهرة لموسيقى الحجرة، إلى أن الموسيقى المصرية في نماذجها الرفيعة تتسم بالفرادة ووضوح الشخصية، وقد استوعبت على مدار تاريخها منذ نشأتها الفرعونية إضافات ثرية من سائر الثقافات، حيث انفتحت على الموسيقى العربية والأوروبية، والأفريقية، فضلا عن الموسيقى التركية التي هي بدورها متأثرة بموسيقى البلقان وأوروبا الوسطى والأندلس.

ومعروف أن الموسيقى المصرية تعود إلى عصور قديمة، ويُنسب إلى الإله “تحوت” ابتكار الموسيقى، التي كان يستثمرها “أوزيريس” في جهوده الهادفة إلى نشر الحضارة في العالم، واستخدم المصريون آلات نفخ ووتريات كثيرة، منها: الناي والمزمار والأرغول والقيثارة والهارب، فضلا عن آلات الإيقاع والدفوف.

ويثمّن هشام جبر الانفتاح الموسيقي الحر على الآخر أينما كان، لتعميق المشترك الإنساني والتواصل الحضاري بين الشعوب، معتبرا أن الحوار الفني يؤدي إلى قوة وثراء وتعدّد في الأساليب والتيارات والاتجاهات، بشرط عدم اقتلاع الذات من جذورها الشعبية وموروثها الأصيل.

ويعيد جبر حالة الخلخلة الحالية في الموسيقى المصرية والاغتراب وفقدان البوصلة إلى خلوّ الساحة من قامات موسيقية قادرة على التطوير والاستفادة من الوافد، دون إهدار للإنجاز المحلّي الذي يفوق منجزات الشعوب الأخرى.

وفي فضاء الفن، العالم كله يؤثر ويتأثر، وليست شوفينية الزعم بأن أفذاذا من أمثال سيد درويش ومحمد عبدالوهاب ومحمد فوزي وبليغ حمدي قد أثروا حركة الموسيقى في العالم أكثر ممّا أثرتها الموسيقى التركية، على مدار تاريخها كله.

ويرجع إلى عمالقة الموسيقى من أمثال عبدالوهاب تطوير القوالب التراثية المألوفة، ومزجها بالإيقاعات الوافدة كالتانغو والسامبا، وإدخال توزيعات أوركسترالية وآلات أوروبية مثل الكونترباص والكمان والتشيللو والماندولين والقيثارة وغيرها، وظهرت في مرحلة لاحقة مؤلفات موسيقية غير مصحوبة بالغناء، وسيمفونيات ومعزوفات ذات طابع مصري، كما لدى عمر خيرت من نجوم العصر الحالي.

ولا يوجد تعارض بين الرغبة في إثبات الهوية من خلال الفنون، والتركيز على جوانب الاتفاق بين البشر في أنماط فنية بعينها، كما في الموسيقى الروحية والدينية والصوفية التي تشترك في سمات كثيرة على امتداد مناشئها حول العالم.

وتشتاق الأذن المصرية إلى نهضة مصر من جديد، شأنها شأن القلب والعين والروح، وعلى حد كلام جبر، “ربما لم تعد الموسيقى المصرية متفوّقة كما كانت، لكنّ مبدعينا قادرون على العودة والتجدّد ومواصلة دورهم في الإشعاع المُثمر المبني على هضم واستيعاب ومعرفة وحس فطري سليم”.

حوار حضاري عبر الموسيقى
حوار حضاري عبر الموسيقى

 

15