الترخيص الحكومي.. سيف يهدد مهرجانات الثقافة بمصر

قرارالحكومة المصرية يعدّ محاولة منها للمزيد من السيطرة على المجال الثقافي، وارتداد إلى الوراء باستخدام الفن والثقافة لتعبئة المجتمع.
الثلاثاء 2018/07/24
قرار قد يخفي الثقافة والفنون من شوارع مصر

تعد المهرجانات والمؤتمرات والتظاهرات الثقافية والفنية التي تضطلع بها كيانات ومؤسسات أهلية ومثقفون مستقلون، المتنفس الوحيد للإبداع الجاد والفكر الحر المستنير والنشاط الطليعي في مصر، ولهذا فإن قرار الحكومة المصرية بضرورة الترخيص للنشاطات الثقافية أثار جدلا واسعا، بين السلطة التي تسعى للسيطرة على المشهد الثقافي والمثقفين الذين يعتبرون حرية النشاط خطا أحمر.

القاهرة - أثار قرار الحكومة المصرية أخيرا بشأن ضرورة الحصول على ترخيص مسبق من وزارة الثقافة لإقامة أي مهرجان دولي أو فعالية ثقافية، حالة كبيرة من الغضب وسط المثقفين، لأنه يعني محاولة جديدة لمزيد من السيطرة والرقابة والتضييق وتأميم الإبداع وعودة لحقبة التدجين.

والفعاليات الثقافية في جوهرها تواصل حضاري حر مع مبدعين وفنانين من سائر أرجاء العالم، بعيدًا عن بيروقراطية الأداء الحكومي، والفعاليات والبروتوكولات الرسمية التي ينهض بها
موظفو وزارة الثقافة. لكن يبدو أن الحكومة لا تعترف بهذا التميز المنفلت من المركزية والوصاية، وأرادت وضع يدها وفرض رقابتها على المهرجانات الثقافية بحجة ضبطها وإعادة تنظيمها وفق قواعد وقوانين جديدة.

الترخيص المسبق

ينطوي القرار المثير للجدل، رقم 1238 لسنة 2018، الذي اتخذه مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، على أكثر من جانب، فهو يقضي بتشكيل لجنة عليا لتنظيم إقامة المهرجانات والحفلات الخاصة، برئاسة وزير الثقافة، وعضوية ممثلين من وزارات الخارجية والداخلية والمالية والسياحة والآثار وغيرها، بالإضافة إلى رؤساء النقابات الفنية والأدبية، وخبراء ثقافيين وفنيين يختارهم وزير الثقافة.

والمقصود بالمهرجانات الثقافية، وفق القرار، جميع الفعاليات الثقافية والفنية ذات الطابع الاحتفالي، الدولية والمحلية، التي تقيمها الجهات الحكومية وغير الحكومية، تحت مسمى تنمية الإبداع والحفاظ على الهوية وتفعيل التبادل الثقافي بين مصر ودول العالم.

أكثر ما أثار السخط في القرار، هو الجانب الخاص بالترخيص المسبق، إذ يقول القرار في مادته الثانية “لا يجوز إقامة مهرجان أو احتفال إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة، بالتنسيق مع الجهات المعنية في الدولة، ومنها مصلحة الضرائب والجهاز الأمني”.

ووصفت إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة هذه الخطوة بأنها “نظرة شاملة وموضوعية من الدولة لوضع الفعاليات في نصابها الصحيح وفق أجندة رسمية معتمدة”.

دفاع عبدالدايم عن القرار جاء محبطًا للمثقفين، فهي عازفة الفلوت التي وصلت إلى مقعد الوزارة عبر بوابة الفن في يناير الماضي، وأمل كثيرون أن تكون نصيرة لهم ولقضايا الحرية والاستقلالية، لأن ملكة “الصولو”، كما يطلق عليها، تعدّ نفسها ضمن كتيبة الفعل التنويري في المشهد الثقافي لا من منظومة الجهاز الإداري.

لم تكن المبررات التي سيقت لتبرير القرار مقنعة، بل كانت غاية في الوهن، وخلت من أبجديات الدبلوماسية، ولم تنجح بطبيعة الحال في الإيهام بأن القرار يهدف إلى مغزى آخر غير هدفه الواضح، وهو تأسيس لمرحلة جديدة للمثقفين والمبدعين، وفرض رقابة ووصاية على حركة التبادل الثقافي والفني الحرة، التي لا تخضع لهيمنة الوزارة وموظفيها والمنتفعين فيها.

يشتم المثقفون المصريون رائحة سيئة في الإجراءات الجديدة تعيدهم إلى عهد فاروق حسني، وزير الثقافة في فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وإلى مرحلة أسبق في عصر الرئيس جمال عبدالناصر، حيث انحسر ضوء المثقف وتحوّل إلى مجرد ظل خافت تابع للسلطة وإملاءاتها وشروطها القاسية غير الأمينة.

الأكثر تضررا وحساسية من القرار المريب، هم منظمو هذه المهرجانات والكرنفالات الدولية بمصر، فقد وصفوه صراحة في تصريحات لـ”العرب” بأنه “قرار ضبابي صادم، يعيد البلاد إلى عصور مظلمة من الشمولية وتأميم الإبداع وإحكام السيطرة على المثقفين وفرض المزيد من التعقيدات والإجراءات المحبطة”.

تراجع الثقافة

الفعاليات الثقافية في جوهرها تواصل حضاري حر بعيدًا عن بيروقراطية الأداء الحكومي
الفعاليات الثقافية في جوهرها تواصل حضاري حر بعيدًا عن بيروقراطية الأداء الحكومي

ترى الكاتبة والمترجمة هناء نصير، عضو اللجنة المنظمة لمؤتمر قصيدة النثر، أنه من البديهي رفض أي رقابة أو تعقيدات بيروقراطية تزيد من حدة تراجع الثقافة في مصر، التي من المفترض أنها تحارب الإرهاب، وتراجع دور مصر الثقافي بشكل عام.

وأضافت لـ”العرب”، من الواجب الوقوف ضد الخطوات التي تتخذ من قبل الحكومة في سبيل إحكام السيطرة على المثقفين وضمان استمرار وجودهم داخل الحظيرة.

وقالت نصير “نحذر من عودة النظام الشمولي، الذي يسعى للهيمنة على كل مدخلات تكوين وعي فئات الشعب المختلفة، لأن هذا الاتجاه الخطر قاد منذ عقود قليلة لهزيمة عربية بشعة نعاني من تبعاتها المرة حتى الآن”.

وأوضح الشاعر محمود شرف، رئيس مهرجان طنطا الدولي للشعر، أن القرار ليس واضحا، ولم يحدد بالضبط سلطة وزارة الثقافة في منح الموافقة لهذا النشاط أو ذاك، ولم يحدد سلطتها في المنع، كما لم يحدد المعايير والاشتراطات الواجب توفرها في النشاط الذي ينال موافقة وزارة الثقافة.

كذلك لم يحدد القرار تبعات هذه الموافقة، حال الحصول عليها، والتزامات الوزارة نحو هذه الأنشطة التي وافقت عليها: هل سيعني هذا أن تقوم الوزارة بدعم تلك الأنشطة؟ وكيف سيكون شكل هذا الدعم؟ هل هو دعم لوجستي فقط؟ أم أنه سيكون دعما ماديًّا أيضا؟

ويعتبر الكاتب محمد البعلي، مدير مهرجان القاهرة الأدبي، القرار محاولة من الحكومة لمزيد السيطرة على المجال الثقافي، وارتدادا إلى قناعات الستينات الخاصة باستخدام الفن والثقافة لتعبئة المجتمع، وتخطيط النشاط الثقافي والفني ليصب في الأهداف التعبوية.

وأبدى البعلي لـ”العرب”، مخاوفه من أن يؤدي تنفيذ القرار بطريقة متسرعة ومتعسفة إلى تجفيف النشاط الثقافي المستقل وتعطيل الكثير من المهرجانات والفعاليات التي كانت تنظم بمبادرة من ناشطين شبان.

وأكد الشاعر والناقد عمر شهريار، عضو اللجنة المنظمة لمؤتمر قصيدة النثر، لـ”العرب”، أن القرار من شأنه تأميم العمل العام، وقتل المبادرات الفردية وأنشطة المجتمع المدني، من خلال إدخال القائمين على هذه اﻷنشطة والفعاليات المستقلة في دوامة الروتين الحكومي، فينتهي اﻷمر إلى توقف المهرجانات والمؤتمرات الثقافية والفنية المستقلة.

 وتعجب شهريار من أن القرار جاء في وقت يجب أن يتكاتف فيه المثقفون لمحاربة اﻹرهاب والتطرف، وتعمل الحكومة على استرداد قوة مصر الناعمة، لكن يبدو أنها أرادت أن تسير عكس الاتجاه.

وبهذا القرار تمنع الحكومة المثقفين من ممارسة دورهم الوطني في التنوير ومجابهة القوى الظلامية، لأنه يعني تعطيل الفعاليات من خلال إجهاد و”تطفيش” القائمين عليها بتنقلهم بين مكاتب الموظفين والرقابيين والإداريين وجهاز الأمن.

15