فنان لبناني يخلّد بالمحو ذكرى الخاسرين في الانتخابات

بيروت - جاء تقديم معرض “في ذكرى الذين لم ينجحوا” للتشكيلي اللبناني جاك فارتابيديان بصالة “مارك هاشم” البيروتية في وقت ملائم، إذ ترافق مع نهاية دورة الانتخابات النيابية اللبنانية التي أسفرت عن شبه استعادة للوجوه السياسية ذاتها مع تطعيمها بوجوه جديدة، انضوت تحت لوائها، الجوّ الذي رافق الانتخابات وهذه النتائج المُنتظرة أكسبا، بوعي أو من دونه، هذا المعرض شرعية مضاعفة لأنه قدّم الغياب على أنه حضورا مُكرسا.
وأرفق القيمون على الصالة المعرض ببيان صحافي صريح وواضح جاء فيه ما معناه “أننا اعتدنا خلال الأشهر القليلة الماضية على رؤية المئات من صور المرشحين للانتخابات معلقة في كل أنحاء المدينة، بعضهم عرفنا وجوههم وعرفناهم لأكثر من ثلاثين سنة وبعضهم دخلوا الآن إلى الساحة السياسية، يتأمل الفنان في هذا المعرض بوجوه هؤلاء، لا سيما هؤلاء الذين لم ينجحوا في الانتخابات لينشر صورهم مُبهمة الملامح في لوحاته كنوع من تحية لهم.
من خلال معظم الأعمال الفنية الحاضرة في الصالة يطرح الفنان السؤال حول مصير تلك الصور بعد انتهاء موسم الانتخابات، الذين لم “يربحوا” في هذه الجولة الانتخابية صورهم تُمزق وتنزع من على جدران المدينة، أما الذين وصلوا إلى سدة الحكم فهؤلاء هم المكرّسون، الحاضرون في حياتنا اليومية”.
الأسلوب الفني الذي استخدمه جاك فارتابيديان في معرضه هذا كما في معارضه السابقة يعتمد بشكل كبير على إضافة طبقات فوق طبقات من الرسم والتلوين دون أن يؤدي به ذلك إلى إشباع اللوحات بأكثر مما تتحمل، بل على العكس، إذ يظل الفراغ كالهواء يتسرب من وإلى مسامات اللوحات حتى في تلك التي تغلبها السوداوية، كما يدخل عامل الحذف أو الامحاء بعد تتالي الإضافات ليركّز الأعمال الفنية، لا سيما البورتريهات التي أكثر من رسمها طوال سيرته الفنية، في صيغة مُلتبسة تحمل أكثر من تأويل. والناظر إلى لوحاته الجديدة والسابقة على حدّ السواء سيدرك أن همّ الفنان الأول هو العيش، إذا صحّ التعبير من ضمن مراحل تكوين لوحته، مراحل يستعرضها بأطوارها الزاخرة وبتحوّلات لا تنفي إحداها حضور غيرها.
وأول ما سيلحظه زائر المعرض أن الفنان فارتابيديان رسم “المرشحين” ومن ضمنهم نساء في وضعيات رزينة و”كلاسيكية”، إذا جاز التعبير، خلافا لمعظم ما انتشر في بيروت من صور لمرشحين في وضعيات تشبه تلك التي يتبناها نجوم السينما أو الحكماء الضليعون في المسائل الملحة.
وربما بتقديمه “لمرشحيه” بهذ الشكل الوقور جعلهم من الطراز القديم الذي لم يفسده بعد شيء من جنون العظمة، هم في عزّ حضورهم المسيطر على مساحة اللوحات أصحاب ملامح مُلتبسة حد الإبهام وفي أكثر من لوحة، وبالتالي حاضرون لأي إسقاطات نفسية، غابت ملامحهم تحت أثر تقنية الإمحاء والحذف والتشطيب التي أداها الفنان بحرفية عالية، لذلك بدت اللوحات كأنها تبللت طويلا تحت زخات مطر لسنوات عدة، أو هي نزعت عمدا وبشكل شبه كامل عن الجدران.
وعلى الرغم من اعتبار القيمين على الصالة الفنية أن المعرض هو بشكل عام تحية لمن لم يتمكنوا من الوصول إلى سدة الحكم، وكما يشير أيضا عنوان المعرض، غير أن ما سيلحظه الناظر وخاصة اللبناني إلى اللوحات أن الفنان لم يقدّم تحية لهؤلاء على أنهم الغائبون أو الداخلون من باب النسيان، بل على أنهم الأكثر حضورا في مدينة يتعاقب عليها أسياد غائبون عن حاجاتها.
إنهم المرشحون/الأشباح الذين بقوا خارج اللعبة الانتخابية ولم يتسن للبنانيين معرفة إن كان لديهم أي شيء جديد وصالح ليقدّموه للبلد وللمدينة، هكذا تصبح صورهم الممزقة أو المعرضة للعوامل الطبيعية أكثر حضورا من هؤلاء الذين حضروا ليعمّقوا من غياب رسمي طال سنوات وسنوات.
بعض الأعمال المعروضة تأخذ الزائر إلى أبعد من ذلك، إذ يرى فيها ما يُذكره بكتابات الروائي إدغار آلان بو المتميزة بواقعية سحرية مؤثرة، إذ تبدو تلك الأعمال وكأنها تحبس أرواح مرشحين “جيدين” في هيئاتهم الغامضة إلى الأبد أو إلى حين توفر ظروف مناسبة لكي يكفّ السحر عنها فتتحقّق، مرشحين على الأغلب من عامة الشعب، ربما قادمون من المجتمع المدني الذي لم تعل صرخته بالقدر الكافي لتغير ما يجب تغييره.
يضعنا الفنان جاك فارتابيديان في وسط هذه الحالة “المُهدّئة”، للحظات لا تعود تلك الصور، التي تحيلنا مباشرة إلى تلك التي غصت بها المدينة حتى التخمة لمدة أشهر عديدة، لا تعود تثير فينا الاشمئزاز أو الغضب.
وعلى الجدار الرئيسي لصالة “مارك هاشم” وفوق معظم اللوحات يعلق الفنان لوحة صغيرة الحجم يطغى عليها اللون الرمادي كتب عليها هذا التعبير “ممنوع لصق الإعلانات تحت طائلة المسؤولية”، وهو تعبير منتشر بشكل كبير في أرجاء العاصمة بيروت، وقد ضاعفت هذه اللافتة/اللوحة من التباس ما قدّمه الفنان في أرجاء الصالة، التباس يؤكد أن “هذه ليست بإعلانات، إنها أمنيات مُجهضة، إنها مجرد مرايا لوجودنا المُحتمل كشعب يعرف ويستطيع أن يختار تغيير قدره.. هي ليست بإعلانات بالرغم من إصراركم بأن تروا عكس ذلك، مبروك عليكم ما سئمتم!”.