أميرة كواش تشكل بمعرض ديجيتالي سفر التكوين

الفنانة أميرة كواش استطاعت من خلال معرضها "وقائع متداخلة" أن تقارب ما بينها في ما يشبه تواطؤا بدائيا غزلته بخيوط غير مرئية/افتراضية.
الجمعة 2018/05/25
حنين إلى العهد القديم

بيروت- في معرضها المعنون بـ”وقائع متداخلة” قدّمت أميرة كواش في صالة “آرت سبيس″ البيروتية، ثماني لوحات فنية وثلاثة أعمال تجهيزية تسرد إحداها جوانب من حياة بعضها البعض في تلازم غير معنيّ بالتسلسل الزمني. كما أدخلت الفنانة الطبيعة كخلفية أساسية لحياة الإنسان، ولكنها متحوّلة ومُهددة بتعاظم وجود التكنولوجيا الشديدة التقدّم.

واستخدمت كواش في معرضها وسائط فنية متعددة من ضمنها الكولاج والأعمال الغرافيكية المتحركة وتقنية العرض الضوئي، إضافة إلى اللوحات الفنية المشغولة بمواد مختلفة لهدف أساسي، وهو تسليط الضوء بشكل نقدي على تطوّر الفن من خلال تفاعله الشكلي والضمني مع التكنولوجيا المعاصرة، ولأجل طرح أسئلة وجودية مُلحة من خلال منظور المُعاصرة.

حكاية العالم بجزئيات وامضة
حكاية العالم بجزئيات وامضة

غير أن جلّ ما قدّمته الفنانة، ليس هو بنقد بقدر ما هو بسط لملامح واقع هجين في صيرورة تحوّله إلى عالم مغاير لما تعودنا عليه كبشر. الوقائع أو الحقائق المتداخلة التي عبّرت عنها التشكيلية اللبنانية في معرضها من خلال إدخالها الافتراضي إلى صلب الواقع المتمثل بالأشياء الملموسة كالجرار واللوحات، كوّنت في مجملها مفتاحا للدخول إلى هيئات إضافية ممكنة للوجود ولا حدود لها ولتحوّلاتها.

وقد أدت هذه “الخلطة” التي قدّمتها كواش إلى جعلنا بشكل من الأشكال نختبر، طالما نحن في الصالة، العالم على نحو جديد ومُطعّم بالكثير من الشاعرية والحساسية الفنية. وقدّم معرضها حكاية العالم بجزئيات وامضة أعادتنا إلى التأمل في مسألة التكوين وظاهرة الوقت وحول كونهما حقيقة أو وهما.

وشكلت المؤثرات الصوتية التي استخدمتها الفنانة لترافق البصريات كصوت زقزقة العصافير وصوت انهمار ماء شلال صغير، صيغة جديدة وإن مجتزئة لسرد حكاية الإنسان وطرده من الجنة وحنينه إليها كماض/مستقبل يوّد لو يعود إليه.

هكذا أخذ العرض بكليته الزائر إلى التأمل في معنى الوقت الذي لحظة حضوره عبر تتالي المشاهد المُتكررة عن واقع بائد (واقع الطبيعة الغناء)، زخر بالحنين ليس إلى سعادة ماضية، بل إلى سعادة مستقبلية تشمل الماضي والمستقبل على السواء، سعادة تتحد فيها الهيئات دون أن تذوب في بعضها البعض وتتقارب المسافات دون أن تُلغى وتتلاقى عندها العناصر المتحابة بعد طول بعاد.

فكرة الزمن حاضرة، ولكن بتدفق شاسع وفضفاض تجعلك تختبره وكأنه حيثية مكانية، وأغلب الظن أن الفنانة أرادت أن تدعو المُشاهد/المُختبر لمعرضها أن يرى بأم عينه كما تُرى الأمكنة الصلة بين الحوادث والأشياء خارج التراتبية الزمنية/التقليدية.

أما هذه الأجواء “الجنائنية” التي أدخلتنا إليها كواش فتعود إلى المزيج الشاعري ما بين عناصر طبيعية كالماء والخضرة والنسائم والعصافير والجرار المتشققة التي شيّدتها الفنانة فوق بعضها البعض في إحالة جلية إلى العهد القديم ووصف سفر التكوين، جرار متصدعة من هول الضوء الذي تدفق إليها ومنها.

دمجت أميرة كواش الحقيقي من الجرار الملموسة والموضوعة في وسط التجهيز مع الافتراضي المتمثل بمشاهد مصورة عن جنائن، تذكر بجنائن عدن أو بالجنائن المعلقة البابلية التي يُقال إن الملك نبوخذ نصر الثاني شيدها لزوجته مواساة لها، لأنها اشتاقت إلى خضرة وطنها.

بسط لملامح واقع هجين
بسط لملامح واقع هجين

ومع هذا التدفق “الديجيتالي” للضوء أو للماء المُضاءة والمضيئة جعلت الفنانة عالم التكنولوجيا المتطور جزءا لا يعادي فكرة الخلق والحياة، دون أن تستثني المخاطر الجمة التي تتعرض لها الطبيعة غير القادرة على تحمل أهوال “الميتا داتا” ونتائج التطور.

وأدخلت الفنانة الكلاسيكية، والمتمثلة باللوحات المعروضة والمستوحاة مباشرة من لوحات كلاسيكية شهيرة فقط لتتناولها بشكل نقدي، عبّرت من خلاله عن التآلف ما بين الكلاسيكي والمعاصر جدا في تقديمه لصور ذات منطق واحد، معظمه استعراضي مُزيف، ونذكر من هذه اللوحات “مطل” و”أطلال التاريخ”.

وقد يكون العمل التجهيزي/المفهومي “جرار الواقع″، ولوحة “نشيد الطائر الميت” الديجيتالية الهيئة من أهم أعمال المعرض، فمنهما ربما انطلقت إشعاعات الأفكار التي تجسدت مُتباينة في باقي الأعمال الفنية على غرار انطلاق وتوزع الأنوار المتنوعة في الجرار الأولى، وتكسر بعضها من هول ما حملت من أنوار.

العملان هما مفتاح واحد لمعاني المعرض، أولا لأنهما يضعان السحيق والجديد من تاريخ تطور الإنسان في تناغم، وثانيا لأنهما يتبنيان فكر جان بوريارد القائل بأننا نعيش في عالم يغص بتراكم الصور/النسخات المهجّنة بشكل متواصل حدّ إغراقنا باللامعنى.

لوحتان ربما تجسدان المنطلق الأساسي لفكرة المعرض العامة القائمة على جدلية الهدم والبناء، لا سيما وفق ما ورد في كتاب سفر التكوين، عن أن مستوى ما من الوجود عليه أن يتدمّر كي يصبح من الممكن للأنوار أن تتوزع متنوعة.

أي مستوى للوجود عليه أن يتشظى كالجرار كي ينبثق التغيير؟ العالم الطبيعي أو الافتراضي؟ وهل التغيير أو التطور هو حتما إلى الأفضل؟ ما هو الأفضل للبشرية؟ أسئلة ربما أجاب عليها الشاعر بيتر كول بتساؤلات إضافية في قصيدته “نشيد الجرار المتكسرة” والتي يقول فيها: إما يلتئم شمل العالم/ أو ينهار/ هنا -الآن- بهذه الكلمات/ على جدار كل قلب/ على وشك النهاية أو البداية/ العالم في استحالة التئام/أو في انهيار مُرجح/ ربما أعجوبة تتحضر/العالم يلتئم شمله داخلنا/ فكل ما حولنا ينهار.

17