الأسماء لا تمطر محبة في مدن قيس سلمان

معرض التشكيلي السوري قيس سلمان "مدن" يقدّم للمُشاهد بوحا بصريا كان يود لو استطاع أن يغيّر مضمونه.
الجمعة 2018/05/18
أبطال مأساويون

بيروت – في حين يتبع معظم الفنانين مبدأ إقامة معرض/فني فردي كل ثلاث سنوات تقريبا، عاد الفنان السوري قيس سلمان بعد انقطاع دام أكثر من أربع سنوات إلى ساحة العرض الفني بمعرضه الجديد “مُدن” الذي يعرض حاليا في صالة “أيام” البيروتية، ليثبت من خلال هذا الغياب أن التمهل والغوص في متاهات واختبارات العمل التشكيلي لفترة قد تعد طويلة قياسا لمعاصريه من الفنانين، كفيلان بأن يجعلا الفنان يقدّم نصا متطورا جدا وخارجا من رحم التجارب والمعارض السابقة.

ولا يُمكن إلاّ ملاحظة النضج الذي ارتقى إليه الفنان إن من الناحية الفنية/التقنية أو من ناحية مضمون الأعمال، أعمال انطلقت من الخاص المعني بالهواجس الشخصية حتى التأثر المباشر بالحرب على أرض سوريا، وصولا إلى العام، حيث كشف الفنان بجرأة فجّة عن مدى الاهتراء والفساد والإجرام المطليّ بشعارات واهية شملت المنطقة بأسرها، وهو الذي أكد ذلك في معرضه السابق الذي حمل عنوان “مجتمعات متحضرة”.

ولأجل ذلك، لا يُمكن الدخول الجديّ إلى “مُدن” الفنان السوري إلاّ من باب مما قدّمه سابقا، فهو بعد أن وصل إلى العام اجتازه اليوم إلى الكونيّ عبر تصويره لمدن كونية انهمك بنقل صورها بشكل مُكثف مليء بالتفاصيل، وهي تحاصر كائناتها “الصُرصارية” الضارة والمضرورة من كل جانب.

الواقف أمام لوحات قيس سينهمك بدوره في التقاط المشاهد والانشغالات اليومية لسكان المدن الكونية التي باتت بوسع العالم، ولكن ضيقة بآفاقها وسبل خلاصها من آفات وخزعبلات وهالات قداسة مزيفة نشرها الفنان هنا وهناك في لوحاته.

وفي هذه المدن دون غيرها من المدن، يُطرح سؤال: أين الحاجة أو الرغبة في الخلاص من الوضع الراهن وقد استسلم لذاته ولم يعد يرى في كينونته أي شناعة وأي مضادات لكل ما تمت إليه “الإنسانية” من معنى وقيم؟

شخوص تضحك وتتشنج وترقص
شخوص تضحك وتتشنج وترقص

وامتازت لوحات قيس سلمان الهائلة الحجم بشخوص تضحك وتتشنج وترقص، وتأكل، وتلهو، وتتشقلب، وتحمل حاجياتها ومسروقاتها، كما حفلت لوحاته أيضا بشخوص تتنقل من مربعات إلى أخرى بسهولة فائقة، تركب الدراجات وتمر بالقرب من سيارات تصغرها في الحجم، تتداخل في ما بينها وتشفّ على بعضها البعض وتفخّخ لبعضها البعض حتى وهي في عزّ اتحادها. شخوص تسبح في فضاءات ضيقة وتجدّف في قوارب إلى اللامكان، تتلوى وتتقشر وتعزف الموسيقى وتجزّ على أسنانها/أنيابها، وتتجاور مع بعضها البعض في حالات ليس فيها أي نوع من الحميمية، إلاّ تلك التي قد تجيء منها منفعة لطرف من الأطراف، تحدّق في بعضها البعض تارة وفي الناظر إليها حينا آخر، ليحتدّ نظرها في بعض اللوحات ويزوغ ليتلاشى قبيل أن يتهدّده أي صفاء يمكن أن يجد سبيله إليها.

شخوصه “الكريهة” التي تعرفنا عليها سابقا لم تغادر لوحاته الجديدة، بل أعاد الفنان تشكيلها سالبا منها الكثير من تفاصيل هيئاتها ومعظم ألوانها وجاعلا إياها أقل غرابة وأقل قباحة، ليس لأنها كذلك، بل لأنها أكثر انخراطا في الحياة اليومية ولأنها تأطّرت ضمن منظومة كونية باتت فيها الشناعة هي الصفة الرائجة والمُتعارف عليها.

ومن ضمن التشكيل الذي يغلب عليه شكل المستطيل غير منتظم الأشكال، يعثر الناظر إلى لوحات الفنان قيس سلمان على بعض محاولي الفرار من لزوجة المدن التي تضطرب برطوبة أجوائها المتمثلة بسديم رمادي/أبيض خانق يريد أن يخفي المعالم الباطنية لتلك المدن عن الناظر إلى اللوحات.

وهؤلاء الشخوص الفارون فرارا غير كامل، ينبثقون من أطراف حدود مدن قيس سلمان إلى خارجها دون أن ينفصلوا عنها، نظراتهم وأشكالهم أكثر إنسانية وأقل خبثا، أغلب اللوحات التي قد تشير إلى ذلك هي التي يطغى عليها اللون الأسود والأبيض.

ويُمكن اعتبار ابتكار الفنان لهذه الشخوص كنوع من فرض التوازن، وإن غير العادل، ما بين من يسكن هذ المدن والذين يعون سوداوية باطنها فيحاولون الهروب منها.

هم أبطال مأساويون من غير ريب، وجودهم خلق جوا من الجدلية ما بين الخارج والداخل من جهة وما بين ساكني المدن والناظر إليها، أي المُشاهد من جهة أخرى، وربما في هذا بصيص من الأمل؟ بصيص نبيل أخذ هيئة بشرية وحيدة أدخلها الفنان في لوحة واحدة، رسم هذه الهيئة البشرية بحجم صغير ومبهم الملامح وهو يطير صعودا من أعلى اللوحة.

فهل يكفي هذا البصيص النافذ من سماء تلك المدن كي يجلب الرجاء إليها؟ أغلب الظن أن الإجابة على هذا السؤال تتلخص بهذا العنوان الذي وضعته الروائية المصرية ابتهال سالم لإحدى رواياتها “السماء لا تمطر محبة”.

17