"نادي غزة لركوب الأمواج" وثائقي ألماني يكسر حصار الفلسطينيين

بعض المهرجانات والأسابيع الثقافية التي تنظمها منابر أهلية وأجنبية بمصر تأتي لتحرّك حالة الركود السائدة بعرضها أفلاما رفيعة المستوى، تحقّق نجاحا ملاحظًا وتجتذب قطاعا من الجمهور.
الجمعة 2018/04/20
كسر للأغلال وتمرد على السائد

هل هناك أرحب من البحر المتوسط لكسر حصار سكان غزة؟ وهل هناك أقسى من صخور الشاطئ لتتحطم عليها الأمواج والآمال؟ هكذا ينسج فيلم “غزة سيرف كلوب” أو “نادي غزة لركوب الأمواج” أسطورته الخاصة بأوجاع البشر.

شهدت القاهرة عرض الفيلم الوثائقي الألماني “نادي غزة لركوب الأمواج” ضمن أسبوع أفلام جوته الذي امتد من 12 حتى 19 أبريل الجاري، تحت شعار “صورة أوسع”.

صورة أوسع

مع البحر، ذلك أفضل جدا، مجموعة من الشباب الفلسطينيين المغامرين في قطاع غزة، يتغلبون على عزلتهم الكائنة بامتطائهم صهوة الأمواج الثائرة، على ألواح من الخشب والفلين قادرة على حمل جموحهم وطموحهم صوب المستحيل.

ويتسع البحر المتوسط لأحلامهم وجنونهم وهم يتزلجون على الماء، تصوّرهم كاميرا فيلم “غزة سيرف كلوب” الوثائقي على سجيتهم، كما هم، مختطفين زهرة الوقت قبل ذبولها وذبولهم، هاربين ساعات قليلة من الحصار المفروض.

ومع انقضاء رحلاتهم البحرية الخاطفة، التي لا تتكرّر إلاّ على فترات حيث يُشترط للإبحار أن يكون البحر غاضبا، يعودون إلى الشاطئ صامتين، ويتبخر الماء من على أجسادهم ببطء، قطرة قطرة، ويقول الواقع الدامي “أنا هنا”.

جاءت أفلام “أسبوع جوته 2018”، بمقر مركز جوته الألماني في القاهرة، ملتزمة بتوجّهها الأساسي “صورة أوسع”، فهي تنطلق من فلسفة أنه “حان وقت
النظر إلى الأشياء من زاوية متسعة”، ومن دون هذه الرؤية وإعادة الظهور والتكيّف، يتعذّر على الإنسان قراءة ذاته، والحياة من حوله.

تساؤلات عديدة تطرحها أفلام أسبوع جوته، في عالم دائم التغير، يصير فيه الغرباء في الصدارة في لحظة ويتم تهميش الذين تصدّروا المشهد منذ قليل: ما الشعور بالانتماء؟ لماذا يحسّ البعض بأنهم ليسوا جزءًا من المجتمع؟ لماذا يشتّت الناس أنفسهم بتفاصيل محدودة بدلا من رؤية الصورة الكبيرة؟

تنوعت مجموعة أفلام جوته بين الروائية والوثائقية، الطويلة والقصيرة، وهي تنتمي إلى ثقافات ودول ولغات متعدّدة، وبعضها يُعرض للمرة الأولى، وتركّز على موضوعات تتعلّق بالهجرة واللجوء والحروب والحدود والعنصرية وأوضاع الغرباء والأقليات.

ويبرز فيلم “غزة سيرف كلوب” (نادي غزة لركوب الأمواج) كواحد من الأفلام اللافتة ضمن أسبوع جوته بالقاهرة، وهو فيلم وثائقي ألماني مدته 78 دقيقة، مصوّر باللغة العربية، ومترجم إلى الإنكليزية، سيناريو وإخراج فيليب غنات وميكي يامين.

وجاءت بطولة الفيلم من خلال أشخاص حقيقيين في غزة، منهم إبراهيم عرفات وعلي أرحيم ومودي الرياشي يوسف أبوغانم ومجموعة من الشباب والفتيات المغامرين في القطاع، من هواة ومحترفي التزلج على الماء وركوب الأمواج، فضلا عن الأميركي ماثيو صديق إبراهيم الذي يدعوه إلى السفر إلى الولايات المتحدة، وصنّاع ألواح التزلج وأصحاب الورش المختصة في شاطئ وايكيكي بهاواي.

ويتبنى الفيلم لعبة المفارقة، فهو ينطلق من شريط القطاع الضيق المعزول لينقل رغبة مجتمعية جارفة في التمدّد والانطلاق والتمرّد وتجاوز العزلة وكسر الحصار، وتتحقّق هذه الرغبة من خلال ركوب الأمواج والتوحّد مع البحر الغاضب، ومن خلال محاولات السفر إلى الخارج.

مجموعة الشباب والفتيات والأجيال الأكبر سنا، بقيادة الشاب إبراهيم، ينتظمون في ممارسة التزلج على الماء، فوق ألواح خشبية مصنعة محليا أو مهربة من الخارج، ويبلغون درجة عالية من المهارة، الأمر الذي يجعل هوايتهم طقسا احترافيا وسلوكا اعتياديا كلما غضب البحر وارتفعت الأمواج.

فيلم ينسج أسطورته الخاصة بأوجاع البشر مناصرا القضية الفلسطينية ومعاناة الحياة في غزة
فيلم ينسج أسطورته الخاصة بأوجاع البشر مناصرا القضية الفلسطينية ومعاناة الحياة في غزة

ويبقى البحر بهجتهم الوحيدة، يدفعهم عشقهم للتزلج إلى الحلم بتكوين “نادي غزة لركوب الأمواج” (عنوان الفيلم)، ويبلور إبراهيم الفكرة على نحو نظامي من خلال علاقته بالأميركي ماثيو، الذي يدلّه على ضرورة الذهاب إلى هاواي لتعلم صناعة وصيانة ألواح التزلج، وجلب الخامات اللازمة لتصنيعها التي لا تتوفّر في غزة ويصعب استيرادها بسبب الحصار.

وبعد إخفاق متكرّر في استخراج التأشيرة، ينجح إبراهيم أخيرا في الحصول عليها، ويسافر بالفعل إلى هاواي في الولايات المتحدة، ويتلقّى إبراهيم دورة متخصّصة في هاواي حول كيفية تصنيع وصيانة ألواح التزلج.

وفي ذروة حلمه بالعودة إلى غزة لافتتاح النادي، تراوده شكوك في مدى اقتناع عدد كبير من البشر بهذه الرياضة، كما أنه يخشى الكساد التجاري لهذا المشروع الذي حلم به طويلا.

وينتهي الفيلم بمفاجأة، هي بمثابة معادل لانزواء أية بارقة أمل يتطلع إليها الشباب في القطاع، فمع كلمة النهاية يظهر شريط مكتوب عليه “إبراهيم لم يعد إلى غزة بعد!”، فكأن الرغبة في السفر إلى الخارج باتت غاية لا وسيلة، ويبقى أصدقاء إبراهيم ينتظرونه دون جدوى.

أمر آخر مهم لا يغفله الفيلم، هو الطرح الجاد للقضايا والأوضاع الاجتماعية عموما في غزة، من حيث نوعيات المهن والأشغال المتاحة (مجتمعات الصيادين والسائقين وغيرهم)، وازدحام الحياة وطبيعة التفاصيل اليومية الموزّعة بين كسب الرزق والالتزامات العائلية ولقاءات الأصدقاء وممارسة بعض الهوايات والرياضات، ومنها ركوب الأمواج.

يلتقط الفيلم من بين السطور معاناة إضافية تخصّ المرأة، إذ يصوّرها مقيّدة بالضغوط والأعراف السائدة، متضرّرة من تدخّلات الذكور في حياتها منذ طفولتها إلى ما بعد زواجها، بدعوى “العيب” أو باسم “الحرام”، وقد يسمح لها البحر أيضا بالانفلات، ففي غفلة من الرقباء ربما تتحلّل من بعض أغلالها (الملبس رمزا).

وليس هناك أرحب من البحر للفكاك من أسر الحصار، لبعض الوقت، وليس هناك أقسى من صخور الشاطئ التي تتحطّم عليها الأمواج والآمال، وهكذا ينسج فيلم “غزة سيرف كلوب” أسطورته الخاصة بأوجاع البشر الحقيقيين، وهكذا تأتي موسيقاه المحملة بشجن الوتريات الشرقية، وأغنياته القليلة التي تدور كلماتها كلها حول معاني الحرية والانطلاق ونسيان الهموم فوق موج البحر.

مناصرة القضية

يلتزم الفيلم بتقنية الفيلم الوثائقي، الذي يعتمد كافة أساليب التسجيل لمظاهر الحقيقة، ولا يتكئ على القصة والخيال و”الفبركة”، بل يتّخذ مادته من الواقع والأشخاص الحقيقيين، سواء بنقل الأحداث المباشرة كما جرت، أو بإعادة تكوين وتعديل ما جرى بشكل قريب من الأصل الواقعي.

وما يُحسب للفيلم مناصرته للقضية الفسطينية، فهو ينقل بأمانة معاناة الحياة في قطاع غزة، وانتشار البطالة وسوء الخدمات في الشريط الضيق، وصعوبة التنقل والخروج من القطاع ولو إلى الدول المجاورة، وغيرها من المشكلات.

كما يسجل الفيلم جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ومنها الاعتداء على الشاطئ الذي جرى تصوير الفيلم فيه، ومقتل أربعة أطفال بنيران إسرائيلية، وهي الواقعة التي رواها إبراهيم في لقاء تلفزيوني له بالولايات المتحدة، عرضه فيلم “غزة سيرف كلوب”.

وفي قلب هذه الأزمة، يظل التزلج والانطلاق فوق صفحة الماء حلما للنساء المقهورات، وللرجال المطحونين في أشغالهم، وللشباب الذين لم يستسلموا لإرهاب القذائف، وعنهم حكى إبراهيم قائلا “نعم هي الحرب، وثمة أيام يتوقّف فيها إطلاق النار، هي أوقات مناسبة للإبحار رغم كل شيء”.

16