أينما كان القارئ يمكن الوصول إليه

انطلاقًا من فلسفة “توصيل الكتاب وروافد الثقافة والمعرفة إلى كل إنسان”، عاد إلى النور في ثوب جديد وتقنيات معاصرة خلال الأيام القليلة الماضية مشروعان تضطلع بهما وزارة الثقافة المصرية؛ الأول: هو المكتبات المتنقلة في الحدائق العامة والأمكنة المفتوحة وفي القرى والنجوع. والثاني هو: أكشاك الثقافة في محطات المترو والأتوبيس والقطار ووسائل المواصلات العامة المختلفة وفي الميادين والحدائق والأندية الرياضية وغيرها من الساحات.
هل ينجح المشروعان التنويريان في ما يهدفان إليه من نشر للثقافة والجمال ومقاومة للعنف والظلام والقبح؟ سؤال يفرض نفسه بقوة على المشهد الثقافي بمصر.
المتابع للحالة الثقافية بمصر، يجد أن هذين المشروعين، اللذين عادا مؤخرًا إلى الحياة مرة ثانية، لم يأتيا من فراغ، إنما دعت إليهما في هذه اللحظة الراهنة ظروف وملابسات ملحة. هذان المشروعان كذلك، لم ينبتا من عدم، إذ عرفتهما وزارة الثقافة المصرية في وقت سابق، سواء كأفكار مجردة، أو كتطبيق عملي.
شواهد عملية
أبرز ما دعا إلى إعادة إحياء المشروعين رغبة مؤسسات الدولة في مواجهة العنف والإرهاب من خلال الثقافة والقوة الناعمة، ويظهر ذلك جليًّا من خلال شواهد عدة، منها: احتواء المكتبات المتنقلة التي شهدتها حديقة الحيوان وحديقة الأزهر خلال الأيام القليلة الماضية على عدد كبير من الكتب المخصصة لتفنيد الأفكار الظلامية، وتصريح حلمي النمنم وزير الثقافة خلال افتتاح المكتبة المتنقلة بحديقة الأزهر في أغسطس الجاري بأن “مقاومة العنف” من أهم الأدوار التي ستلعبها هذه المكتبات.
من الشواهد كذلك، أن عودة فكرة “الأكشاك الثقافية” في محطات المترو والأتوبيس والقطار ووسائل المواصلات العامة، تبدو ضمنيًّا بمثابة رد فعل على انتشار “أكشاك الفتوى” ذات الصبغة الدينية، التي ظهرت مؤخرًا في محطات المترو. وقد صرح أشرف عامر رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة على نحو واضح بأن فكرة أكشاك الثقافة تتم بلورتها الآن “بعد ظهور أكشاك الفتوى في محطات المترو”، وأن من أهم أدوارها “نشر الأفكار الإيجابية، ومحاربة التيارات الظلامية والهدامة”.
هذان المشروعان عادا مؤخرا إلى الحياة مرة ثانية وقد دعت إليهما في هذه اللحظة الراهنة ظروف وملابسات ملحة
تنبني فكرة “المكتبة المتنقلة” على فلسفة الوصول إلى القارئ حيثما يكون، من خلال سيارات ووحدات متحركة، بإمكانها بلوغ كافة المناطق. وقد عرف العالم ظهور المكتبات المتنقلة للمرة الأولى في بريطانيا والولايات المتحدة من خلال العربات التي تجرها الخيول، والقوارب المتحركة.
وفي ما يخص مصر، أنشأت “دار الكتب” المكتبات المتنقلة في العام 1984 من خلال سيارات نقل ضخمة، وكانت لدى الدار مكتبتان مجهزتان تضم الواحدة قرابة عشرة آلاف كتاب، وأضيفت إليهما مكتبة ثالثة في العام 1990 كهدية من المجلس الثقافي البريطاني، وكانت مخصصة لكتب الأطفال، ثم توالى إنشاء المكتبات المشابهة، لتصل إلى ست مكتبات.
وقد ظلت هذه المكتبات تخدم المناطق المختلفة التي لا تتوفر بها مكتبات ثابتة، حتى توقفت الخدمة في أعقاب 25 يناير 2011. وقد عانت تجربة المكتبات المتنقلة في ظهورها الأول من مشكلات أخرى إدارية، منها صعوبة توفير أمكنة أحيانًا لعبور وانتظار السيارات الضخمة، ومضايقات الباعة الجائلين وسائقي سيارات الأجرة، وبيروقراطية الموظفين في الجامعات والحدائق ومراكز الشباب والأندية والساحات الشعبية وغيرها من الأمكنة التي تتطلب إصدار تصاريح من أجل دخول سيارة المكتبة المتنقلة وخروجها.
وما بين توقف المكتبات المتنقلة في 2011، وعودتها في صيف 2017 من خلال وزارة الثقافة، شهدت مصر بعض “المبادرات الخاصة” في هذا الإطار، منها مكتبة “تلوين ورسم وحكي قصص” بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في فبراير الماضي، برعاية مؤسسة “مصر الخير”، وسيارة المكتبة المتنقلة في محافظات مصر المختلفة في العام 2016 بإشراف المؤسسة ذاتها، ومبادرات أخرى من معهد غوته الألماني، وبعض دور النشر.
أما المبادرة الثانية، التي أعيد إحياؤها من جديد منذ أيام قليلة بمصر، فهي “الأكشاك الثقافية”، وتعود جذورها الأولى إلى فكرة طرحها الدكتور محمد أبوالفضل بدران عقب رئاسته الهيئة العامة لقصور الثقافة في نوفمبر 2015، ويستهدف المشروع نشر أكشاك في محطات مترو الأنفاق والأتوبيس والقطار فضلًا عن الحدائق العامة والميادين والأندية والساحات، بالمحافظات المختلفة. من خلال هذه الأكشاك يمكن لأي فرد عابر أن يقرأ أو أن يستعير كتابًا من إصدارات الدولة مقابل مبلغ رمزي يسترده عندما يُعيد الكتاب.
فكرة المكتبات المتنقلة تجاوزت مجرد عرض مجموعة من الكتب في مكان مفتوح، لتصبح إنشاء مركز ثقافي تنويري متكامل
صياغة عصرية للمشروعين
تحتضن وزارة الثقافة المصرية هذه الأيام مبادرتي “المكتبات المتنقلة” و”الأكشاك الثقافية”، وفق صياغة عصرية ومعطيات جديدة، لتفادي تعثرات المشروعين في ظهورهما الأول، وقد بدت بالفعل تجليات هذه الرؤية المغايرة المتطورة على نحو ملموس، بما يدفع إلى بذل جهود أكبر لتحقيق الأهداف المنشودة.
بالنسبة إلى المكتبات المتنقلة، تجاوزت الفكرة مجرد عرض مجموعة من الكتب في مكان مفتوح، لتصبح إنشاء مركز ثقافي تنويري متكامل، يتضمن القراءة الورقية والإلكترونية وورش الرسم للأطفال واكتشاف المواهب في إلقاء الشعر والموسيقى والغناء، وأنشطة مسرح العرائس، وغيرها.
وشهد شهر يوليو الماضي مشاركة الآلاف من المواطنين في تجربة المكتبات المتنقلة “متعددة الأنشطة” في حديقة حيوان الجيزة، واشتملت الفعاليات على التلوين والرسم والصلصال والأراجوز وتعليم الخط العربي، وتم توزيع عدد من الكتب المجانية على الحضور، وتفعيل خدمة “الاستعارة المجانية للكتب لمدة يوم”.
تكررت التجربة في “حديقة الأزهر” منذ أيام قليلة، وهي الحديقة الأشهر بالقاهرة، إذ يرتادها قرابة مليوني مواطن سنويًّا، وتعددت الأنشطة إلى جوار القراءة، إذ شملت الشعر والإنشاد وتعليم الأطفال الرسم ومسرح العرائس وألوان الترفيه والتنزه المختلفة.
هذه الرؤية العصرية للمكتبة المتنقلة بإمكانها أن تكون الأنسب في تحقيق أهداف الدولة، وعلى رأسها: التشجيع على القراءة ونشر الوعي والتثقيف وروح الجمال إلى جوار الترفيه، وتحقيق التنوير بمعناه الحقيقي، بما يضمن نبذ العنف ومواجهة قوى الإرهاب والتطرف.
وتتحرك الهيئة العامة لقصور الثقافة لإنجاز المبادرة الثانية “الأكشاك الثقافية” على أرض الواقع، وفق آليات جديدة مبتكرة، إذ أعلن أشرف عامر رئيس الهيئة أن الفكرة في طريقها إلى التحقق لدعم القراءة ونشر الثقافة وإشعاعات التنوير وتشجيع المواهب في الفنون المختلفة وإقامة فعاليات وبرامج متكاملة، وذلك في محطات المترو والمواصلات العامة والميادين والأندية والحدائق وغيرها، في جميع محافظات مصر.