يوميات عنتر وعبلة في معرض للفنان التشكيلي العراقي محمود شبر

انعطافة فنية كبيرة من رسم الحرب والألم إلى الرومانسية والتراث الشعبي.
الجمعة 2023/01/06
شخوص قادمة من عمق التراث الشعبي

دائما ما يؤكد الفنان العراقي محمود شبر أنه يريد أن يكون حرا ولا يكون مسجونا في قالب واحد، لذلك تراه يختار مواضيع متنوعة لأعماله، وحتى وإن كانت مألوفة فإنه يعيد تقديمها بحرية مطلقة، كما هو الحال في معرضه الجديد عن عنتر وعبلة اللذين يصورهما انطلاقا من روح العصر الحالي.

في أواخر السنة الفائتة قدم الفنان التشكيلي العراقي محمود شبر، بعد غياب نسبي عن ساحة العرض الفني، معرضا مفصليا في مساره الفني وجاء تحت عنوان "عنتر وعبلة" في صالة جمعية الإمارات للفنون التشكيلية بالشارقة.

على الرغم من أن الفنان ذكر في بيانه الصحفي المتعلق بالمعرض أنه ليس بصدد الإسهاب في تفاصيل البيان الفني الذي أطلق عليه اسم "شوبرياليزم" وقدمه سنة 2020 معتبرا معرضه الحالي منطلقا من الأفكار التي طرحت فيه، إلا أنه نجد من الضرورة أن نذكر وإن باقتضاب في هذا المقال أهم ما في هذا البيان التأسيسي لمنطق عمله الفني الجديد.

ذكر محمود شبر في أكثر من مناسبة أن البيان ركز على "جعل الزمن طوعا لأفكار الفنان وغير مقيد بها، مما يسمح بحرية الانتقال عبر الأزمنة في المكان الواحد". كما أضاف "قررت أن تكون البداية مع قصائد المعلقات باعتبارها الأبرز والأكثر شهرة لما لها من مكانة في ديوان الشعر العربي، وبما أن الشعر هو خطاب سمعي واللوحة خطاب بصري حاولت إسقاط لغة الخطاب الأول على الخطاب الثاني ودمجهما عبر سطح الخامة.. ومن هنا رأيت أن "الشوبرياليزيم" سوف تكون فاعلة من خلال استيراد مفردات الموروث والتراث الشعبي العربي وصهرها أو مزاوجتها مع روح الرسم المعاصر..".

انتقل الفنان من بناء الأفكار في بيانه الفني / الجمالي إلى تحقيقها في معرضه الحالي.

الفنان محمود شبر أوغل في الأفكار وزرع الإشارات والرموز والتساؤلات حول نوعية العلاقة بين العاشقين
الفنان محمود شبر أوغل في الأفكار وزرع الإشارات والرموز والتساؤلات حول نوعية العلاقة بين العاشقين

ومما ذكر في تقديمه لمعرض "عنتر وعبلة" "اخترت هذين العاشقين التاريخيين لمجموعة من حكاياتي المرسومة بفهم متجدد يتماشى مع روح المعاصرة، التي نشهد بها كل هذا التطور العلمي والتقني على جميع أصعدة الحياة، إذ صار بإمكان عنترة أن يستخدم الفرس أو سيارة فارهة في المقابل لأن المعنى في بنية العمل لا يتوخى الردية الكلاسيكية أو المتعارف عليها إنما التغريب للوصول إلى مناطق تكون لها مشتركات مع كل رجل عاشق على ظهر هذا الكوكب الجميل منذ آدم وصولا إلى آخر رجل.. ولعل التسليم أو الإذعان لطروحات العقل الأوروبي أو الغربي منذ العصور الأوروبية الوسطى وصولا إلى عصر النهضة وإهمال كل النتاج العربي والإسلامي المهم إنما يؤدي إلى نتاجات تتناص حدّ السطو، إذا جاز لنا التعبير، على أفكار فنانين أجانب لاعتقادنا أن ذلك مهم ومن دونه ليست له أي أهمية..".

في العودة إلى ما ذكرناه آنفا أن معرض "عنتر وعبلة" يشكل انعطافا كبيرا في سيرة محمود شبر الفنية نشير إلى أن مردّ ذلك تحوله من رسم الألم وآثار الحروب إلى رسم عالم ملون مستقاة مفرداته من التراث الشعبي ومُعدلة أقاصيصه البصرية لتكون معاصرة لا تخلو من الطرافة والرومانسية المُخففة.

ويأتي معرض شبر هذا مغايرا تماما لما قدّمه سابقا. ونذكر هنا على سبيل المثال معرضا له أقامه منذ عدة سنوات في بيروت تحت عنوان "إلى الأمام". حمل محمود شبر من العراق إلى صالة "آرت سبيس الحمرا" قطعا مرورية من شوارع بغداد أصاب معظمها الرصاص والتلف في الإشارة إلى الاجتياح الإجرامي الأميركي لبغداد.

ليس الفنان العراقي أول من صور عنتر وعبلة إذ ثمة فنانون عرب كثر تناولوا عنترة وعبلة وكل حسب أسلوبه الفني الخاص. ونذكر على سبيل المثال الفنان رفيق شرف ومجموعته الرائعة المسماة بـ"عنتر وعبلة" التي أدخل عليها تحديثا واضحا في الألوان والأفكار وليكون هو "رفيق شرف" عنترة في العديد من لوحات هذه المجموعة.

كما نذكر الفنان الكاريكاتوري حسن إدلبي الذي قدم سنة 2017 رسوماته عن عبلة التي تعشق لاعبي كرة القدم رونالدو وميسي وعنترة الذي يرتدي الجينز ويشرب القهوة الأميركية ويأخذ صورة "سيلفي" له ولعبلة، غير أن الفنان محمود شبر في مقارنة مع ما قدمه الفنان الكاريكاتوري أوغل في الأفكار وزرع الإشارات والرموز والتساؤلات حول نوعية العلاقة بين العاشقين وقلب موازين القوى بطريقة أكثر غنى ومرونة إلى جانب قدرته الفنية العالية التي جعلت ما رسمه لوحات بمستوى عالمي.

إعادة تصوير لقصص حب تراثية
إعادة تصوير لقصص حب تراثية

وجاءت السخرية في لوحاته أكثر عمقا ولم تقتصر على استحضار عناصر من العالم العصري و”لصقها” في عالم عنترة وعبلة المُلتبس والطريف والدافئ واللاذع أيضا والمحفوف بأخطار الخيانة المُمكنة.

في المعرض عثرنا على بعض إشارات المرور التي رأيناها سابقا في لوحاته ولكنها حضرت في أجواء مختلفة تماما. ظهرت عبلة بأظافر مطلية بالأحمر و"جميلة" ولكن حسب المعايير المعاصرة. إذ تبدو وكأنها خضعت لعمليات تجميل جعلت خدودها منتفخة وصلبة وفمها "مزموما" في تعبير متكلف يخلو من المصداقية. أما عنترة فظهر بابتسامة سطحية في إحدى اللوحات، ابتسامة لم تزل شيئا من هيبته التاريخية.

"دبدوب" الحب المعاصر حضر في أكثر من لوحة من لوحات العراقي محمود شبر
"دبدوب" الحب المعاصر حضر في أكثر من لوحة من لوحات العراقي محمود شبر 

وفي لوحة بالغة الرمزية نصب فيها الفنان العديد من الفخاخ وهي اللوحة التي تحمل عنوان "ما الذي يجعلني مختلفا"، نرى إشارة "ممنوع التدخين" وعنترة يدخن النرجيلة. وماء النرجيلة تسبح فيه أسماك وتثير التساؤل حول مذاق هذه النرجيلة واختناق الأسماك فيها على حد السواء. وفي اللوحة أيضا تحضر عبلة وهي تقوم بخياطة قماشة حمراء لعلها قسم من جسدها وجلد "دبدوب الحب" في آن واحد، المسلوخ عنه جلده والجالس ببياضه المذري أرضا إلى جانبهما.

و"دبدوب" الحب المعاصر حضر في أكثر من لوحة، تارة تحمله عبلة بطريقة غير مكترثة تثير التساؤل حول أهميته عندها، وتارة أخرى ظهر مصابا بسهم يقتل ولا يميت لأن الطيور السيراميك من حوله تذكرنا بأن ما يجري هنا هو لهو بلهو. وفي لوحة أخرى ظهر الدبدوب على حصانه بهدوء مُقلق وطريف في آن واحد إلى جانب عنترة وهو الآخر على حصانه شاهرا سيفه بكل جدية وشدة.

وزرع الفنان المتفجرات في لوحاته وجاءت بأنواع مختلفة: وضع قنبلة يدوية صغيرة إلى جانب العاشقين وهما في حالة هيام واضحة ولعب بالكلمات جاعلا من بحيرة البجع “بحيرة الوجع” ولم يتوان عن جعل عنترة بهيبته مفتاحا في يد عبلة لسيارتها وهي مستلقية على الكنبة.

واستحضر الفنان عناصر من العالم المعاصر أخذتنا من ناحية إلى عالم "البوب آرت" ومن ناحية أخرى إلى العالم الاستهلاكي. ومن العناصر فيلم "توم وجيري" الكارتوني على شاشة تلفزيون العاشقين ورسومات "باربي" على مظلة اختفى تحتها العاشقون. وأيضا حقيبة عبلة التي تحمل ماركة "بولغاري" المسجلة.

يُذكر أن الفنان محمود شبر من مواليد 1965 حاصل على دكتوراه في الفنون الجميلة من جامعة بابل. عضو في جمعية التشكيليين العراقيين. لديه معارض فردية كثيرة ومشاركات عدة في معارض جماعية.

15