يوليان ناغلسمان مدرب شاب يكسب الرهان في اختبار اللعب مع الكبار

المدرب الألماني يوليان ناغلسمان يكتب قصة نجاح لافتة في دوري أبطال أوروبا ويفرض اسمه بين الكبار في المسابقة القارية برفقة فريق لايبزيغ الألماني.
الأحد 2020/03/15
سلام البطل لا الخوف

تدفع لعبة كرة القدم أحيانا إلى الواجهة بوجوه شابة ثابرت واجتهدت وكان شرفها الوحيد هو محاولة اللعب مع الكبار وتسجيل نقاط على حسابهم ولمَ لا الانتصار عليهم وإخراجهم من دائرة الضوء التي يستميتون في البقاء فيها؟ المثال يتجسّد بوضوح في ما كشفت عنه مسابقة دوري أبطال أوروبا هذا الأسبوع من حوار ثنائي انتصر فيه طموح “التلميذ” يوليان ناغلسمان على أنفة وكبرياء “الأستاذ” جوزيه مورينيو ليزيحه من دور مبكر في المسابقة الأبرز أوروبيا.

لندن - كتب المدرب الألماني يوليان ناغلسمان قصة نجاح لافتة في مسابقة دوري أبطال أوروبا هذا الموسم بعدما بلغ دورها ربع النهائي لأول مرة في تاريخ الفريق والأولى في بداية مسيرته كمدرب شاب، فيما كانت متعتها استنادا إلى تحليل الخبراء والمهتمين كونها سجلت سقوطا مدوّيا لمدرب كبير عرف بدهائه وخبرته الواسعة في هكذا بطولات وهو البرتغالي جوزيه مورينيو.

أحيانا لكرة القدم أحكامها، وللخبرة والحنكة كلمتهما الفصل أيضا في أحيان كثيرة، لكن للطموح مبتغاه هو الآخر إذا تعلقت همّة المرء ببلوغ درجات عليا وكان شرفه في “ثني الأرجل” اجتهادا وتفانيا في العمل، وإخلاصا لجماهير كبيرة تتابع ألق هذا وطموح ذاك الذي لا ينتهي.

لسنا هنا في دائرة الأدب أو التكنولوجيا أو عالم الابتكارات وما ساواها من صنع البشر. لكن المهمة رياضية بامتياز وتتعلق بمنجز كروي أساسا خطّه مدير فني شاب آمن بقدرته على مقارعة مدرب “حكيم” عرف بخبرته الفائقة وحنكته الكبيرة والأهم من ذلك “أناه” المتعالية ونجح في الإطاحة به.

إنجاز استثنائي

سطّر هذا المدير الفني الشاب فصلا مهمّا في رحلته مع عالم التدريب ليدخل البطولات الكبرى من أوسع أبوابها ويفرض اسمه بين الكبار في المسابقة القارية برفقة فريق لايبزيغ الألماني الذي يتولى تدريبه منذ بداية الموسم الحالي.

وتمكن هذا المدير الفني الفتي الذي لم يتجاوز عمره الثانية والثلاثين، من الإطاحة بمورينيو المدرب الحكيم والمشهود له بحنكته الواسعة وتمرسه الكبير في ميادين كرة القدم ليصبح أصغر مدير فني في تاريخ مسابقة دوري أبطال أوروبا في كرة القدم يبلغ ربع النهائي على حساب توتنهام الإنجليزي.

ولاح المدرب الألماني في أبهى صور السعادة أمام عدسات المصوّرين مساء الثلاثاء الماضي عقب فوز فريقه على النادي اللندني، وصيف بطل النسخة الأخيرة، بثلاثية نظيفة في إياب ثمن النهائي بعدما تغلب عليه في العاصمة الإنجليزية بهدف وحيد.

وكان ناغلسمان مدركا جيدا لأهمية الإنجاز الذي حققه في مسيرته التدريبية الشابة والواعدة وخطوته المهمة نحو مستقبل مشرق. وقال في أول تصريح له بعد ضمان فريقه مقعدا بربع نهائي المسابقة القارية الأبرز في أوروبا “هذه نتيجة مهمة جدا بالنسبة للنادي، إنها جيدة جدا جدا!”، مذكرا بأن لايبزيغ في تاريخه القصير (تأسس عام 2009)، لم يصل أبدا إلى هذه المرحلة من المسابقة.

ناغلسمان أجبر على اعتزال اللعب مبكرا، لكنه اكتشف شغفه بمهنة التدريب من خلال العمل كمساعد لتوماس توخيل

وأضاف “إنها لحظة مهمة بالنسبة لكتب (التاريخ)، لأنها المرة الأولى. إنه إنجاز سيكون في الصفحة الأولى. يمكننا تصفح الكتاب وقراءة ما حققناه مع هذا النادي”.

والأكيد أن الكتب ستحكي وستخصص الصحف الرياضية وسواها أعمدة ومقالات مستفيضة حول الإنجاز الذي حققه ناغلسمان الذي أطاح بوحش خبير في عالم التدريب والمسابقة، وهو مورينيو (57 عاما) المتوج بلقبين في البطولة القارية العريقة، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى ربع النهائي منذ عام 2014.

وعلى الجانب الآخر فإنه معلوم هذا التمنع الذي تفرضه “ذات الأذنين” على “السبيشل وان” في السنوات الأخيرة وباتت سقطاته فيها أكثر من منجزاته، من ذلك أنه لم يسع إلى تغيير منهجه في التدريب وباتت خياراته التكتيكية مكشوفة لخصومه، يضاف إلى كل ذلك أسلوبه المتقادم والذي بدأ يفقد نكهته شيئا فشيئا.

ومثلما هو حريّ العودة إلى ما كُتب عن هذا المدير الفني في أعداد سابقة من “العرب” تحت عناوين مختلفة مثل “سحر مورينيو يتقادم”، “مورينيو غير المحبوب”، “جوزيه مورينيو.. مدرب حكيم تقوده حكمته إلى منعرج الشكوك”، فإنه لا مناص اليوم من الوقوف على حقيقة مؤكدة أن هذا المدير الفني بدأ يفقد صنعته مع مرور الوقت ولم يغيّر من أسلوبه ورؤيته لإدارة اللعبة على الميدان. وإلا ماذا ينقص فريقا مثل توتنهام يزخر بمجموعة شابة قادرة على المنافسة محليا وقاريا؟

الجواب يكون برؤية ثنائية تفرض أولا نظرة إلى الخلف للوقوف على منجز الفريق في مسابقة دوري الأبطال الموسم الماضي التي حل وصيفا لبطلها ليفربول برفقة الأرجنتيني ماوريسيو بوكيتنينو الذي رحل مخيرا من إدارة الفريق لا بإرادته والكل يتذكر اللحظات التاريخية التي أمضاها برفقة توتنهام.

ثانيا وهو الأهم الوضعية الحرجة والكارثية للفريق حاليا على سلم ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز (المركز الثامن 41 نقطة) وينافس على مركز مؤهل للمسابقة القارية الموسم المقبل، وما هو مؤكد أنه لن يبلغه بشهادة محللين وخبراء.

رغم أنه لا أحد ينكر على البرتغالي ما حققه طيلة مسيرته الطويلة من ألقاب وتتويجات، لكن ما هو ظاهر أنه لن يكون بأي حال من الأحوال قدوة لغيره لعدة اعتبارات منها ما أفصح عنه هذا المدرب الشاب بأنه يرى في الإسباني بيب غوارديولا ومواطنه الألماني توماس توخيل خير قدوة له في المستقبل البعيد.

رؤية مغايرة

طموح يوليان ناغلسمان يفوق خبرة جوزيه مورينيو في دوري أبطال أوروبا
طموح يوليان ناغلسمان يفوق خبرة جوزيه مورينيو في دوري أبطال أوروبا

ويبدو أن رؤية ناغلسمان لم تخطئ المرمى لجهة ما يحققه هذان المدربان من إنجازات محلية وقارية وإن كانت غلبة الفني الإسباني هي الطاغية على الألماني بشهادة واعتراف الكثير من الفنيين الكبار. وقبل هذه المواجهة المزدوجة، اعترف المدرب الألماني

بأن مورينيو أثار إعجابه في شبابه، وقال “لقد استلهمت كثيرا من الفترة التي قضاها في بورتو. الطريقة التي فاز بها معه بلقب دوري أبطال أوروبا عام 2004 ضد موناكو (الفرنسي)، مع فريق قوي جدا في البرتغال، لكنه لم يكن أكبر الأندية الأوروبية، أثارت إعجابي كثيرا”.

وأضاف “وقتها كان لا يزال مدربا شابا جدا (41 عاما)، ولم يكن هو نفسه لاعبا رائعا، وبالتالي كانت لديه مسيرة مماثلة إلى حد ما لمسيرتي”.

لكن المقارنة تتوقف عند هذا الحد. من حيث السجل من ناحية، وفلسفة كرة القدم من ناحية أخرى، فإن الرجلين على كوكبين مختلفين. وتابع ناغلسمان ردا على المقارنة بينه وبين المدرب البرتغالي “لقد فزت بلقب واحد مع فريق للشباب، وهو فاز بأكثر من 20 لقبا” على المستوى الاحترافي.

ومن الناحية التكتيكية، فإن أستاذيه هما من الفنيين الذين يعتمدون الأسلوب الهجومي والإبداعي: مواطنه توماس توخيل مدرب باريس سان جرمان الفرنسي والإسباني بيب غوارديولا مدرب مانشستر سيتي الإنجليزي.

وبالنسبة إلى ناغلسمان “يتقاسم توخيل وغوارديولا طريقة لابتكار كرة قدم تعتمد على السيطرة في جميع مراحل اللعب”، وهي الطريقة التي اعتمد عليها لايبزيغ في مواجهتيه ضد توتنهام!

وإضافة إلى حضوره الذهني ومواظبته على خلق أفكار جديدة، يتمتع المدرب الشاب أيضا بسمعة يطلق عليها الألمان “مدرب كمبيوتر محمول” أو “مدرب رقمي”، حيث دائما ما يسارع هذا المدرب الشغوف بتتبع البيانات إلى اختبار جميع البرامج القادرة على مساعدته في إدارة الحالة البدنية للاعبين، وجهودهم في التدريبات، نومهم، وأمور أخرى.

كما أنه اعترف بـ”التجسّس على الإنترنت” على النادي اللندني في محاولة لفهم الأجواء التي سادت داخليا في صفوف توتنهام. وقال “أستمع إلى جميع المؤتمرات الصحافية، أشاهد جميع الأحاديث الصحافية. في أكثر الأحيان، تصريحات اللاعبين في نهاية المباراة هي بمثابة انعكاس لما يطلبه منهم المدرب. إنها طريقة جيدة لفهم الأجواء”.

كل هذه الأمور المتعلقة بمسيرة مدرب شاب تدفع إلى التساؤل عن مشواره كلاعب وحياته قبل خوض تجربة التدريب. وتشير مصادر صحافية مطلعة إلى أن ناغلسمان صاحب الطول الفارع (1.90 م) أجبر على اعتزال لعب كرة القدم في سن مبكرة (20 عاما) بسبب إصابة خطيرة في الركبة، لكنه سرعان ما اكتشف شغفه بمهنة التدريب مبكرا أيضا.

اعتزال اللعب مبكرا

لم يحظ ناغلسمان بمشوار كروي حافل بالإنجازات والأرقام والشهرة في تاريخه كلاعب، حيث بدأ اللعب في نادي “أف.سي لسينغ” ومن ثم التحق بفريق أوغسبورغ للناشئين.

وانتقل بعدها إلى اللعب في صفوف فريق ميونخ 1860 عام 2002، وهناك احترف كرة القدم، ليعود إلى اللعب في صفوف نادي أوغسبورغ عام 2007 عندما كان عمره 20 عاما. وبالرغم من ولعه بعالم كرة القدم، فقد حرمته إصابته على مستوى الركبة لمرتين على التوالي من متابعة مسيرته الكروية كلاعب، ليعتزل وينتقل إلى عالم التدريب.

المدرب الألماني بدا مدركا لأهمية الإنجاز الذي حققه في مسيرته التدريبية الشابة وخطوته المهمة نحو المستقبل

درب ناغلسمان في بداية مشواره ناشئي نادي ميونخ 1860 تحت سن الـ17، وانتقل بعدها للعمل في الطاقم التدريبي لناشئي هوفنهايم لنفس الفئة العمرية في عام 2010. لكن مصادر صحافية تشير إلى أنه انطلق في رحلة التدريب كمساعد لتوخيل في أوغسبورغ عام 2008 مع فرق الفئات العمرية.

ودفعت عبقرية هذا الشاب المبكرة في مجال التدريب إدارة هوفنهايم إلى تعيينه مدربا لفريقها الأول عام 2016 ليصبح في الثامنة والعشرين من عمره أصغر مدرب في دوري الدرجة الأولى في تاريخ البطولات الأوروبية الخمس الكبرى.

التحق بلايبزيغ مطلع الموسم الحالي بهدف قطع شوط كبير في مشروع النادي والذي أطلقه منذ عقد من الزمن مالك شركة مشروبات الطاقة “ريد بول” ديتريخ ماتيشيتس. بعد ثمانية أشهر من وصوله، أظهر أنه في مستوى التطلعات.

مدرب بالفطرة

يعتبر ناغلسمان المولود في 23 من يوليو عام 1987 أصغر مدرب في تاريخ البونديسليغا بتقلده رسميا تدريب نادي هوفنهايم الألماني خلفا للهولندي هوب ستيفنز وهو لم يتجاوز الـ30 من عمره.

ما يلفت الانتباه إلى هذا المدير الفني الشاب أنه لم يكن حاصلا على الشهادات التدريبية الكافية لبدء مسيرته كمدرب في البوندسليغا، لكنه رغم ذلك نجح في إنقاذ هوفنهايم من الهبوط إلى الدرجة الثانية، إضافة إلى مساعدته في الوصول إلى المراتب الأولى للمشاركة بدوري أبطال أوروبا، كما نجح في موسمه الأول في الحصول على جائزة أفضل مدرب في الدوري الألماني.

ويقود ناغلسمان حاليا لايبزيغ الذي يحتل المرتبة الثالثة في ترتيب الدوري الألماني بـ50 نقطة وبفارق خمس نقاط عن بايرن ميونخ المتصدر حتى لحظة إعداد التقرير.

ويمتلك ناغلسمان شخصية قوية وأفكارا رائعة ساعدته في الوصول إلى المقاعد الأوروبية وتحقيق نتائج رائعة. ويعتقد أن التدريب 70 في المئة منه نفسي و30 في المئة منه تكتيك باعترافه الشخصي، حيث إنه يولي اهتماما كبيرا بالجانب النفسي والاجتماعي ويحث دائما على توفره لدى لاعبيه. ويجسد الألماني ذلك بعبارة تتردد كثيرا على لسانه مفادها “أنت بحاجة إلى توازن الصفات الفنية والتكتيكية والحالة النفسية”.

ربما يكون ناغلسمان واحدا من الفنيين الذين سيكون لهم شأن كبير مستقبلا، لكنه لن يكون أبدا أبرزهم بكل تأكيد حيث تظهر في الأفق وجوه شابة أخرى جديرة بالاهتمام في إنجلترا وإسبانيا قد تفوق في طموحها وخبرتها هذا المدرب الشاب لكنها تسير في خط مواز للمنجز الذي حققه وقد تفوقه أحيانا، على غرار ما يرسمه فرانك لامبارد مع تشيلسي وميكل أرتيتا مساعد غوارديولا السابق في مانشستر سيتي والذي يخوض رحلة ممتعة هذا الموسم مع أرسنال وبالمثل يحاول ستيفن جيرارد معانقة المجد في مغامرته برفقة نادي غلاسكو رينجرز الاسكتلندي.

22