إعلام "الجزيرة": قضاء وقطر

الإعلام أمانة وجب حفظها وتقديمها للناس برويّة وتحفظ.
الثلاثاء 2025/04/29
أزمات حسب الطلب

الأساس في التاريخ أن يكون حافظا للأمانات والوقائع. الإعلام هو أيضا أمَانة وجب حفظها وتقديمها للناس برويّة وتحفظ. ربما هذا ما يكسب أي منبر أو وسيلة إعلامية جانبا من الثقة والصدقية عند الناس تجعلهم يدافعون عنها، وهو ما يجعلها تتوسع قُطريا وعالميا. هذا الجانب يحضر لدى بعض الوسائل الإعلامية ويغيب عن أخرى استنادا إلى تقييم الخبراء والمختصين.

تتفاوت رؤية الخبراء حول تقييم الأداء الإعلامي الذي تقدمه قناة “الجزيرة” القطرية منذ بدء بثها في العام 1996. هناك من يرى أن القناة مثّلت منعطفا حاسما للإعلام العربي والعالمي قياسا بالتوقيت الذي جاءت فيه. وهناك من يرى أن “الجزيرة” لم تكن لتعانق العالمية وتتوسع لولا بعض الأحداث الكبرى التي طبعت العالم والوطن العربي بدءا بهجوم 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، مرورا بغزو العراق عام 2003 وثورات الربيع العربي عام 2011، ووصولا إلى الحرب في غزة وما يجري في سوريا اليوم. لكن هناك قراءات أخرى ترصد المنعطف الحقيقي الذي أسقط “الجزيرة” وأعلن “نهايتها إعلاميا” وتربط ذلك بما تمخّض عن الثورات العربية من نتائج سحبت الكثير من رصيد القناة القطرية أكثر مما أضافت إليها.

المنطقة العربية مرت بعدة أحداث كان على الإعلام أن يواكبها. محطات بارزة مثلت منعطفا حاسما لتواكب “الجزيرة” البعض منها (خصوصا هجمات 11 سبتمبر وغزو العراق) وتنقلها إلى الناس في البداية بعفوية مراسليها وحرفيتهم الميدانية وصياغة صحافية ربما كانت متحررة من القيود داخل الأستوديوهات الرسمية. الإعلام العربي كان حينها شبه مغيّب عن الواقع وما يدور في فلكه. الكل كان يتابع ما تنقله “الجزيرة” بشططها المصنوع وبعمق الخبر وما وراءه. رواية “الجزيرة” كثيرا ما كانت تشدّ الناس. صنعة متبوعة بكم هائل من المفردات لتحيط الجميع حول الوقائع وما يبرز من تكهنات ورهانات. حافظت القناة الإخبارية العربية حينها على نسب مشاهدة قياسية ومتابعة هي الأكبر في الوطن العربي وكانت بمفرداتها على الساحة الإعلامية قدرا لا مناص منه. استمر هذا “القدر المحتوم” لعدة أعوام. ظل العالم العربي يتابع كل ما تنقله “الجزيرة” بما لها وما عليها باعتبار أن لا منافس لها على الساحة. الكل بانتظار لحظة الخلاص. لكنّ الكثيرين بدأوا يشككون في بعض الروايات التي تناقلتها منابر القناة القطرية ويكتشفون تباعا الأهواء التي كانت تحرّك صانعيها بعد غزو العراق في العام 2003. إلى اليوم تقف الدلائل بارزة لتكشف حجم “الزيف” الذي كانت تنقله حينها عن الرئيس الأسبق صدام حسين والكثير من المسؤولين السابقين في الدولة، عن أسلحة الدمار الشامل التي اُتهم بها حينها صدام وكانت وراء قرار الولايات المتحدة شنّ هجوم على العراق وإسقاط النظام، لا بل العودة إلى حرب الخليج الأولى والدوافع التي كانت تحرّك الرئيس العراقي الراحل لغزو الكويت في العام 1990.

إلى اليوم تعود “الجزيرة” عبر منصتها الجديدة “الجزيرة 360” الحصرية إلى كل هذه المحطات بالعناية والتركيز تقديرا من صانعيها والقائمين على خطها التحريري ربما لأهمية المرحلة وحساسيتها لدى بعض الدول من ناحية ولأهميتها الإستراتيجية والتاريخية وما يدور في منطقة مثل الشرق الأوسط تغلي بالأحداث والصراعات تتجدد كل يوم من ناحية ثانية.

في عصر التطور التكنولوجي والوسائط المتطورة وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي اخترقت كل شيء لا يمكنك أن تتاجر ببضعة أفراد يتحلّقون حول جنازة تأبين لتصنع منهم الحدث مثلما هو الحال في تونس

معلوم أنه في عالم تتزايد فيه الصراعات، خصوصا في الشرق الأوسط، كان لا بد لبعض الدول العربية أن تنشّط ذاكرتها الحسية وتتحرّك إعلاميا. وهذا ما سعت إليه المملكة العربية السعودية التي انطلق من عاصمتها الرياض بث قناة “العربية” في العام 2003 بالتزامن مع أحداث الغزو الأميركي للعراق وما رافقه من تحديات. كان على العالم أن يتابع نسخة موازية لما تنقله “الجزيرة” بفائضها الإعلامي الزائد عن الحاجة للمشاهدين. مستوى إعلامي متباين ورسائل ضاغطة في كل الاتجاهات خدمة للمشروع وليس ارتهانا للأداء والدلالة الإعلامية التي يمكن أن تشدّ الناس. على النقيض من “الجزيرة” ظل العالم العربي يراهن بشدة على انفتاح وتنوع إعلامي أكبر لإسقاط تلك السردية التي لطالما تغنت بها القناة القطرية وأطنبت فيها. كان الأمر يسيرا أن تنسج بعض الدول على منوال ما سارت فيه السعودية (قناة العربية) وبدأت بعض الشبكات الإعلامية تتوسّع ليتم الإعلان عن بث قناة فرانس 24 بالعربية يوم 6 ديسمبر 2006، وسكاي نيوز عربية، وهي عبارة عن مشروع مشترك مملوك مناصفة بين شركة أبوظبي للاستثمار الإعلامي وبي.سكاي.بي، في 29 نوفمبر 2010.

قناة “الجزيرة” القطرية حاضرة اليوم في كل مكان تقريبا. أحداث متواترة تواكبها قنوات الشبكة الإعلامية القطرية بلغاتها المتعددة عبر العالم. الحياد في نقل الخبر مطلوب. على الأقل هذا ما يحفظ لأي وسيلة إعلامية جانبا من المصداقية. القناة القطرية اختارت أن تخالف السائد والمعهود في نشر المعلومة للمتلقي. راهنت دائما على “التضخيم” لجلب أكثر نسب متابعة وشدّ الناس. لكن المتلقي اليوم لا يشبه ذلك الذي يمكن أن تراهن على كسبه أي وسيلة إعلامية بـ”زووم” مكشوف وفاضح. صحيح أن المتلقي نهم، لكنه انتقائي إلى درجة تجعله يتوقع الخبر وما وراءه من استتباعات.

في عصر التطور التكنولوجي والوسائط المتطورة وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي اخترقت كل شيء لا يمكنك أن تتاجر ببضعة أفراد يتحلّقون حول جنازة تأبين لتصنع منهم الحدث مثلما هو الحال في تونس. اختارت “الجزيرة”، التي أعلن عن غلق مكتبها في تونس منذ العام 2021 على غرار عدة دول عربية أخرى، أسلوب التضخيم في كل شيء. أسلوب لم يعد يخفى على المتابع الحصيف الذي يمكن أن يتوقع بفطنته ما وراء ما ترصده “الجزيرة” من رسائل ووقوفها على الخط مما تسعى إليه بعض الدول من إصلاحات جوهرية على غرار ما هو عليه الحال في تونس. مشروع الإسلام السياسي الذي أعلن عن نهايته منذ تولي قيس سعيد رئاسة البلاد وتغيير نظام الحكم فيها بات يؤرق بعض المناوئين للسلطة في تونس، لذلك يجدون في منبر “الجزيرة” متنفّسا لتمرير رسائل المظلومية والإمعان في نقد النظام ومهاجمته.

من وجهة نظر القائمين على المشروع الإعلامي القطري هو أن تقدم “الجزيرة” الخبر ونقيضه كأن تسير النشرتان الإخباريتان للقناتين العربية والإنجليزية مثلا في خط مواز، حيث نجد رؤية تحريرية للقناة العربية ليست بنفس الحماسة التي تدافع بها عن حركة حماس ونقل الأحداث وما يجري في غزة تتوافق مع الرؤية التي تقدمها القناة باللغة الإنجليزية. جانب يعكس طريقة تكيّف “القناة” مع كل خبر تقدمه ورؤية تحاول الدفاع عنها مراعاة لحساسية الوضع وليس دفاعا عن الرسالة التي يمكن أن تقدمها للناس.

في وجه من وجوهه، هذا هو إعلام “الجزيرة”: الرسالة قبل الواجب المقدس، الغاية قبل الوسيلة التي تجوب العالم وتنقل ما يدور في فلكه بأجهزتها المتطورة وصحافييها الذين يغزون المكان. كأن التغطية الإعلامية للقناة بشبكاتها المتفرعة عبر العالم باتت قضاء وقطر.

5