"يوتيرن".. فرصة للبدء من جديد

اليوم أو بعد مئة عام على هذا العالم أن يتوقف عن السخافات وأن يتوقف عن كونه أناني ومتعجرف ومتغطرس بشكل مقزز فقط لوهلة ولحظة يقرر فيها أن يُكبل الشر ويُسجنه.
الثلاثاء 2024/01/02
مسلسل رعب لا ينتهي

ننهي هذا العام مثقلين بقلوب مفجوعة وجروح متقرحة وأرواح متناثرة مشطورة. علينا أن نلملم جراح هذا العالم، حتى نورث أطفالنا عالما متشافيا لا متداعيا، أخلاقيا وإنسانيا. لكن السؤال: من أين نبدأ؟

فلسطين المتشظية؟ السودان المنكوبة؟ أوكرانيا المهملة؟ اليمن الحزين؟ أم من أفريقيا المنهوبة؟

من أين نبدأ؟ من دول متهالكة اقتصاديا؟ من عالم  رأسمالي لا يرحم، عالم يزيد من الفجوات بين الغني والمعدوم، ويستمر بكسر أحلام الشباب وتهميشها، ويستنزف قلوبهم ووقتهم بعجلة لا ترحم، ويعمق من ضياع الأفراد ومخاوفهم في عالم غير مستقر أبدا؟

من أين نبدأ؟ من غياب العدالة، أم من هشاشة الصراط المستقيم؟

من أين نبدأ؟ من جهل متفشي، أو معرفة غير كاملة، أو كره متصاعد، أو تطرف متزايد؟

من أين نبدأ؟ من قطاع صحي عالمي متداعي مدّعي، يستثمر في الداء لا في الدواء؟

من أين نبدأ؟ من عالم يستثمر في التصحر لا في التشجير؟ من مصانع تزيد من تسميم الهواء وتعكير الأكسجين؟

لكن بالرغم من كل ذلك، دائما هناك فرصة لـ"يوتيرن"، للبدء من جديد، دائما هناك فرصة لوقف النزيف.
كل يوم هو فرصة جديدة للتعاطي مع الأمور بشكل مختلف.. لإيجاد حلول بدلا من تعميق الأزمات والآلام بشكل مستمر.

دائما.. أليس كذلك؟

أستيقظ كل يوم، أفكر لوهلة، لعل العالم استعاد وعيه وإدراكه هذا الصباح وقرر مثلا أن يوقف مسلسل الرعب الذي لا ينتهي، أن يتوقف عن القتل، عن التخويف والتهويل وعن تغييب الوعي.

لعله قرر أن ينظر إلى النور، أن يُحاسب نفسه بعمق وبشدة وبشكل كلي وجدي على طريق الجحيم الذي استمر في السير فيه لفترة طويلة.

في لحظة ما، اليوم أو بعد مئة عام، على هذا العالم أن يتوقف عن السخافات، أن يتوقف عن كونه أناني ومتعجرف ومتغطرس بشكل مقزز.

فقط لوهلة، للحظة، يقرر العالم أن يُكبل الشر ويُسجنه.. يجعله ينتظر في الزاوية بينما يتم إصلاح الأمور ولململة الأضرار.

أن يتوقف هذا الضلال عن سحب أرواح، شطر قلوب وإغراق هذا العالم بالمزيد من الظلام.

أن يتوقف عن غسيل الدماغ الذي يستمر به منذ فترة طويلة، ليحول الأفراد من كائنات لطيفة مدركة لوجودها وماهيتها إلى كائنات مدمرة نفسيا وعقليا وفكريا وثقافيا وماديا.د كائنات عشوائية أنانية ضائعة عن نفسها وعن حقيقتها.

متفائلة.. متشائمة؟ لست أيا من ذاك.. لكن لا شيء يستمر للأبد.. صحيح؟

سيهرم هذا النظام العالمي.. سيشعر الجميع - الجميع دون استثناء -  بالتشظي وليس فقط التعب والإرهاق.

لا يمكن أن تستمر البشرية على هذا الحال. في صباح ما، سيكون هناك كلمة أخيرة. ألم عميق أخير، ثم بعدها سيعم الصمت والهدوء والسكون.

في صباح ما سيقول هذا العالم: يكفي!

لا بد للحكمة أن تستعيد مكانها وسطوتها، ولا بد لكل هذا الظلام الحالك أن يتلاشى. سيتم استبدال كل القيم والقوانين بشكل أفضل أو على الأقل بشكل مختلف. فالمجتمعات فسدت، وفسد الإنسان بشكل مرعب.

كل المجتمعات والأمم السابقة التي تعاظمت بفسادها هلكت، فلماذا نحن لا نهلك؟

هذا العالم يحتاج لشفاء نفسي عميق، يحتاج لطبيب نفسي لتقويم أفعاله ونواياه وقيمه ومبادئه.

الكون يمنحنا يوميا فرصة لتصحيح الطريق. لا بد أن تكبح جماح الرعب والخوف، وأن يسيطر هذا العالم على أفكاره الشيطانية السامّة.

عليه أن يفعل ذلك، عاجلا أم آجلا. كل فرد عليه أن يختار إما النور أو الظلام. سيتم وضع كل شخص صحيح في مكانه الصحيح بعيدا عن العشوائية والغوغائية المستمرة.

سيتم إسكات الأصوات الهشة المتكسرة، وستعود أصوات الحكمة والرّشد والرصانة والعقل والمنطق لتصدح عاليا.

سيعود الجميع للقراءة للمعرفة للمعلومات للتساؤل والتشكيك من جديد بكل ما بُنيت عليه المجتمعات.

على الجميع العودة إلى عقول الفلاسفة وحكمة الأدباء ومعرفة الحضارات السابقة. نحتاج لإعادة قراءة النصوص من جديد، وأن يفتح هذا العالم قلبه ويسمح للحقيقة بالتسرب إليه، وأن نبحث عن المعرفة الضائعة، التي أخفيت لقرون طويلة.

أن تتوقف الجماهير عن التبعية، أيا كانت هذه التبعية في تعريفها. حين لا ينتمي المرء إلى أفكاره وقضاياه وحقيقته الكاملة بعيدا عن المؤثرات الخارجية، وحين لا يجد تعريفا لماهيته الإنسانية الحقيقية، لا يكون حقيقيا في كلماته ونقاشاته وأفعاله وحياته. يبقى ناقصا، مُكبلا.. لم يكتمل ولن يكتمل.

إذا، لا مزيد من السفاهة. الجميع يعود إلى رشده. المضمون أهم من القشور الهشة المزيفة. والقلوب النقية والضمائر اليقظة أهم من الأنانية والغطرسة والكذب والإدّعاء والزيف والتلاعب.

لا مزيد من العقول المغلقة. الجميع يعود ويفكر بانفتاح وتقبل ويبحث عن الحقيقة في هذا العالم اللامتناهي.

لا مزيد من إطلاق الأحكام. الجميع يعود لتقويم ذاته، وتعليم عقله، وصقل روحه. لا مزيد من إعطاء الشر الحق في السيطرة. لا مزيد من التبرير للفساد والضياع والتيه.

لن يتم تخيير الإنسان بخيارات فاسدة. هناك طرق جديدة علينا البحث عنها والبدء بتمهيدها من أجل مستقبل الأجيال القادمة، حتى نستيقظ بعد عشرين عاما في عالم أقل اختلالا وخبلا.