ياسمينة هلال ومتعة الفوتومونتاج في معرض "أرى نفسي فيك"

كلنا نملك امرأة مؤثرة في حياتنا ومسارها، سواء كانت تلك المرأة أما أو جدة أو خالة أو عمة، أو أيّ امرأة مقربة من العائلة كان لها حضور مميز وروح لا ننساها أو نتخلص من تأثيرها وإن غابت. من هؤلاء المؤثرات جاءت فكرة الفنانة اللبنانية ياسمينة هلال التي حولت عملها في التصوير إلى اهتمام بمدى تأثير هؤلاء النسوة في الأجيال الناشئة مركزة على وهم الزمان والمكان.
كم هو من الممتع أن تعثر على ذاتك في ملامح والدتك وجدتك وأنت في الآن ذاته تحتفظ بخصوصيتك الظاهرية والباطنية؟ هذا ما سيخطر على بالنا ونحن نشاهد أعمال الفنانة المصورة اللبنانية ياسمينة هلال التي وضعتها تحت عنوان “أرى نفسي فيك”.
اعتمدت الفنانة في أعمالها على التصوير الفني مستخدمة التدخل اليدوي أثناء تظهير الصور وتاليا تقنيات الكولاج والرسم والتجهيز الفني والنحت بمادة الريزين.
هذا المعرض الذي تقدمه صالة “زلفة حلبي” الكائنة في مدينة بيروت حتى آخر شهر سبتمبر الحالي يتميز أولا بغنى التقنيات التي استخدمتها الفنانة لتعبر من ناحية عن الأفكار المطروحة، ومن ناحية ثانية جاءت الأعمال قائمة بذاتها إلى جانب كونها جزءا أساسيا من نسيج سردي بصري واحد يحتفل بالماضي كحالة راسخة في الوجدان وفي الحاضر كمرآة لا تعكس ببلاهة مظاهر الأشياء فقط، بل أيضا تداعياتها وتأثيرها في نفس الناظر إليها الذي يساهم بشكل كبير في توليف ما يراه كي يستقيم معنى المعرض بشكل عام من خلال وجهة نظره الخاصة.
يذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن ما سيراه الزائر هو نوع من استكمال لما عُرض في “مينا آرت فير” لهذه السنة في بلجيكا قبل أن يُصار إلى عرض البعض منه وللمرة الأولى في صالة “زلفة حلبي” اللبنانية.
حضور صور فوتوغرافية ذاتية للفنانة يأتي أشبه باعتراف ضمني بأن الزمن وهم والحياة الحقيقية في مكان آخر
ويشير البيان إلى أن الأعمال الحاضرة في الصالة هي أعمال للفنانة لم تعرض سابقا، ولكن هي امتداد وفي صلب موضوع المعرض السابق الذي هو بشكل أساسي احتفاء بالنساء اللواتي كان لهن تأثير إيجابي كبير في حياتنا. أعمال “ميناز أرت فير” أبصرت النور بعد أن طلبت المصورة من عدة نساء أن يلبسن ثيابا هي في الأصل لوالدتهن أو جدتهن أو خالتهن أو فرد نسائي مؤثر بالنسبة إليهن من عائلتهن المُقرّبة، ثم عمدت إلى تصويرهن بأسلوب فني في مواضع مختلفة من منازلهن.
أما الأعمال الحاضرة في هذا المعرض والتي لم تقتصر على الصور الفوتوغرافية المُعدّلة يدويا فهي لياسمينة في ثياب والدتها وجدتها وفي منزلهما المأهول بذكريات الطفولة السعيدة، ولكن أيضا بذكرى حرب 2006 المأساوية عندما كانت ياسمينة لا تزال في التاسعة من عمرها. آلة التصوير التي استخدمتها الفنانة، غير المحبذة للتصوير الديجيتالي، هي التي استخدمها أهلنا في فترة الممتدة من الستينات الى الثمانينات من القرن الماضي أي حين كانوا قادرين على أن “يظهّروا” الصور يدويا في الغرف العتمة.
ما يميز هذه الصور أنه يمكن معالجتها والتدخل يدويا في البعد الضوئي القائم حكما على جدلية الأسود والأبيض، وتحديدا العتمة والنور. وهذا ما فضلت الفنانة ياسمينة هلال الاعتماد عليه في تصويرها للمشاهد وهو ما أعطى صورها نفحة التعتّيق أو ما جرى على تسميته بالـ”فينتاج” أو “الأنتيك”. وقد ساهمت الأمكنة التي صورت فيها في أن تجعل من هذه الصور تبدو وكأنها قادمة من زمن قديم. وقد ذكرنا آنفا أن الأمكنة التي صورت فيها هي لبيت الأم والجدة.
إضافة إلى ذلك، لم تقتصر معالجة الصور على استخدام التقنية القديمة، بل إن ما صورته يشمل تفاصيل من المنازل كالمعرقات والأثاث والأزهار التي كانت رائجة آنذاك. وكانت لهذه التفاصيل والأشياء قيمة عاطفية كبيرة بالنسبة إلى المُصوّرة لأنها جزء أساسي من طفولتها وقد اكتست مع مرور الوقت، كما هو ظاهر في أعمالها، جوا سحريا لا لبس فيه وهو بالرغم من ذلك ظلّ واقعيا جدا.
أما بالنسبة إلى الناظر إلى الأعمال والذي لا علاقة له بذكريات ياسمينة هلال الخاصة سيجد جوا آخر، سنسميه بجوّ سحري مُضاعف يمتّ إلى عالم الأمكنة المسكونة بالأطياف الحيّة خارج الزمن الذي عاشت فيه. كل تلك الأجواء والعناصر المتعاطفة مع بعضها البعض أنجبت عالما أنثويا بامتياز هو احتفاء بالمرأة المؤثرة في حياة الفنان، وعلى الأغلب عند الكثير من مُشاهدي الأعمال.
ومن الأشياء التي ساهمت في تخصيب خيال الفنانة اللبنانية حدّ إيجاد هذه المجموعة من الأعمال الفنية المتنوعة عثورها على فستان مخملي أزرق اللون وهو فستان عرس والدتها. كما عثرت في الخزانات العتيقة على فستان خطوبة جدتها أبيض اللون والمزخرف بورود لامعة.
في المعرض صور فوتوغرافية قامت الفنانة بتقطيعها ولصقها وصقلها من خلال استخدام تقنية المونتاج. بعضها ما يوحي بفكرة التقدّم المُستمر من خلال تكرار العناصر البصرية في الصورة الواحدة وبعضها الآخر يعترض سياقه المتماسك مشهدا غرائبيا لونيا جعل من الصور عالما آخر هو على هامش الحياة العادية وشديد التأثير فيه.

ولعل أهم ما حضر في المعرض هو مجموعة من منحوتات استخدمت فيها الفنانة إطارات صور من فضة تعود إلى جدتها، أحلّت فيها شذرات من صورها الفوتوغرافية الذاتية في قوالب من مادة الريزين، المادة الصناعية الشفافة القابلة للتكثيف. وقد ذكرت الفنانة أن هذه المجموعة عزيزة عليها لأنها صاغت – ولا نقول وضعت – تلك الصور الذاتية الأثيرية مضيفة إليها ورق الذهب وأوراق الأزهار والرسم بالحبر ونثرات وقطع المرايا.
وفي هذا السياق نذكر أيضا ما قالته الفنانة يوما إنها في بدايات عملها الفني نُصحت بأن تركز على تقنية واحدة حتى لا يضيع التعبير فكان ردها جليا في أعمالها التي حشدت فيها تقنيات وأساليب عديدة من الرسم والنحت والكولاج والفوتو مونتاج والتجهيز الفني. كما استخدمت مواد مختلفة منها البلاستيك والخيطان والقماش والكانفاس.
ويمكن الإشارة إلى أن أعمال الرزين تلك قد تكون مؤثرة لسبب آخر وهو أنها جاءت كنوع من حفظ للذاكرة، من العناصر الطبيعية المُبدلة لكل أحوال الحياة، داخل قطع تشبه الجواهر الشفافة التي تُمتّع الناظر اليها من كل الجوانب وتحفّز الخيال عند اكتشاف كل تفصيل فيها. إنها طريقة جمالية وحساسة في القبض على الوقت دون اللجوء إلى سجنه. وتأتي الأعمال الأخرى لاسيما لحضور صور فوتوغرافية ذاتية للفنانة أشبه باعتراف ضمني بأن الزمن وهم والحياة الحقيقية في مكان آخر.


