ياسر نصر فنان مصري يشكّل من الخطوط السوداء بهجة غائبة

يهرب الفنان عادة من الأزمات إلى عالمه الفني الخاص، ليخلق تعبيرات فنية عن الواقع بأبعاد جمالية وحسية فريدة، ذلك هو حال الفنان المصري ياسر نصر، الذي انعزل في مرسمه طيلة الحجر الصحي الإجباري لينتج معرضا تشكيليا بعنوان “خطوط سوداء”، معرض كان لأزمة فايروس كورونا المستجدّ الفضل في ولادته.
القاهرة – كسر المُعتاد والإبحار عكس التيار من لوازم التجديد، فقد يتم قلب الرؤية وتتبدل القوالب الجامدة ويُختار المُهمل، ويُوظف المُستبعد لصياغة رؤى أكثر سحرا وأشد جذبا، ويمكن استنطاق الألوان بخلاف ما يتصوّره الإنسان أو اعتاده للحصول منها على مشاعر وأحاسيس مضادة لما هو مُتعارف عليه، فذلك يعني أن المبدأ الأكثر ثباتا في الفن هو اللّاثبات.
بدت تلك الرؤية حاضرة لمتابعي معرض الفنان المصري الشاب ياسر نصر أخيرا، وحمل عنوان “خطوط سوداء” وركز على إمكانية إيجاد توظيف جديد للون الأسود في التعبير عن خبايا المشاعر وفضح أحاسيس مخبوءة.
من الغريب أن تتشابك الخطوط السوداء، وتتداخل معا لتصنع بهجة غائبة، ما شكل طرحا لاستخدام الألوان الزيتية خارج إطاراتها التقليدية المعروفة.
الأسود لون مبهج
قال الفنان التشكيلي ياسر نصر، لـ”العرب”، إن لحظات فارقة في زمن رسم اللوحة يُمكن أن تنقلب فيها مشاعر الحُزن والضيق والكآبة إلى سرور.
ورغم أن لوحات معرضه رسمت جميعا في فترة العزلة الإجبارية التي فرضتها جائحة كورونا على العالم، إلاّ أنها أفلتت من انكسار الأمل وموجات الإحباط وأعادت استخدام الخطوط السوداء لتطرح من خلالها رؤى مُبهجة.
وفي تصوّره، أن هناك ألوانا كئيبة بطبيعتها، لكن إعادة استخدامها وتشبيكها مع ألوان أخرى يُمكن أن يُغيّر من سماتها المتعارف عليها، فالأسود يُمكن أن يمد ظلا ويتشابك ويتحوّل إلى أطر لألوان أخرى، مثل الأزرق والأحمر والأصفر والأبيض ليرسم حالة من البراءة والبهجة، مثلما هو الحال في لوحته “طفل المدينة”.
قد تبدو الخطوط السوداء عنصرا أساسيا في تنظيم حدود معرفة الإنسان في لوحة تحمل عنوان “كل ما تعرف”، حيث تتشابك الخطوط معا بأشكال أفقية ورأسية ومائلة لتُنظم مقدار المعرفة وصعوده من الأقل في الأعلى، ثُم إلى التدفّق المشوّش، فيبدو الربع الأسفل من العمل معبرا عن الأرض، ثم تطل السماء بزرقتها الصافية في الربع التالي صعودا.
ويلي ذلك خلفية بيضاء تعبر عن النقاء والبراءة، ثُم تصعد أكثر لتجد ألوانا متعدّدة ومتباينة التأثيرات، بما يُضفي على المشهد شعورا باللاّيقين الناتج عن تعدّد المعارف لدرجة الحيرة والتشوّش الشديد، كأن اللوحة تطرح تصوّرا صوفيا حول حدود علم الإنسان ونهاياته، وتنتهي بحار المعرفة الواسعة إلى تناقضات مُحيرة للنفس البشرية.
ورغم القتامة المتصوّرة لفكرة الكهف بما يُمكن أن يُشكله من حالة شعورية مُشربة بالعزلة والتوحد والابتعاد عن البشر والحياة الحديثة، إلاّ أن توزيع اللون الأبيض داخل الخطوط السوداء يوحي بقدر من النقاء والصفاء الإنساني البعيد عن ضوضاء وضجيج الحياة الحديثة.
يُمكن أن يُمثل الكهف مرحلة تأمل وتدبر وسكينة ورضا، واستسلام للطبيعة الخلابة بما يوحي بذوبان في التفكّر في ما مضى، والتحفّز لما هو قادم، ما يعني تحويله لأداة شحذ وبثّ أحاسيس ومشاعر إيجابية.
وقال التشكيلي المصري، لـ”العرب”، إن الكثير من المشاهد الموجعة يُمكن أن تحمل في طياتها لحظات جمال نادرة، ففي أوقات الوجع والانكسار الشديد، ثمة مشاعر إيجابية بالصلابة والحب والرضا بالقدر الذي يُمكنها من أن تتدفق، فمهمة الفن الحقيقية الإمساك بهذه اللحظات واحتضانها وإعادة بثها للناس كوسيلة لمجابهة الحُزن.
كسر ثيمات عتيقة
ظهر ما يطرحه الفنان المصري جليا في لوحته المعبرة التي تحمل عنوان “صحبة طيبة”، وفيها جثمانا رجل وامرأة مُعلّقان على مشنقتين بجوار بعضهما البعض، غير أن التشابه الشديد والمُقنع في البقع اللونية لكل من الجثمانين يوحي بالتآلف والمحبة والاتفاق التام بين الضحيتين، ما يعني أن رباطا من الحب يجمعهما كأنهما زوجان أو شريكان يسعدهما أن يُشنقا معا.
وثمة تآلف عجيب ونشاط وحيوية تُضفيه الألوان المختلطة بالخطوط السوداء في لوحة “السوق العتيق”، حيث يبدو البشر بوجوهم المستبشرة، وصخبهم اللافت، وحركتهم الدؤوبة، نموذجا جميلا لحياة لا يوجعها قدم المباني والحوانيت والطرقات، فالحياة تتجدّد بالناس، وتنتصر بالحركة والتنوّع.
وأكّد نصر أن هذه اللوحة يراها الزوار في القاهرة تعبيرا عن سوق قديم في أستراليا، رغم أن مدينة ملبورن التي عاش فيها سنوات طويلة حديثة لا تعرف قدم المباني، وفي الوقت ذاته يراها أستراليون تعبيرا عن سوق قديم في القاهرة، رغم أن وجوه البشر تعكس ملامح مُغايرة وتعبيرات مختلفة.
وأشار لـ”العرب”، إلى أن اللوحة ولدت في خياله دون أن يضيفها الواقع، ولذلك تصوّرها كل طرف على أنها تمثل تعبيرا عن الآخر الذي لا يعرفه.
وياسر نصر من مواليد القاهرة عام 1988، سافر إلى أستراليا، ودرس في جامعة “ألتروب” المتخصّصة في الفنون، وتخرّج في قسم الفنون التشكيلية هناك، قبل أن يُنشىء معارض متخصّصة للفن في مدينة ملبورن، بمشاركة فنانين شبان من كافة دول العالم.
ولفت الفنان المصري إلى أنه يسعى إلى كسر ثيمات عتيقة يتصوّر البعض أنها حاكمة ولازمة للفن التشكيلي من خلال رؤى تُصاحبه منذ الطفولة وتطوّرت معه خلال مراحل التعليم والسفر والاطلاع وتعلم الموسيقى والشعر، وهو يرسم بالزيت ويفضله ويبقى مع الزمن ويتيح مجالا واسعا لتدرّج الألوان وتكثيفها.
وأضاف أنه تأثر بشدة بالفنان الألماني إميل شوماخر، الذي قدّم أعمالا مميزة في أوروبا خلال حقبة الستينات، كما أحب في مصر الفنان منير كنعان، الذي كان يُمثل لونا له خصائصه.
وذكر في حواره لـ”العرب” أنه يُتابع نماذج جديدة ومختلفة لفنانين يسعون لتقديم طروحات مغايرة للمألوف في دول المغرب العربي والعراق، وتيقّن أن جيلا جديدا من الفنانين المميزين سوف يظهر تأثرا بالتحوّلات الثقافية العالمية.
ورأى أن هناك حالة عداء تجاه الفن التشكيلي وروح التجديد المطروح لا تقتصر على العالم العربي وحده، كما يتصوّر البعض، إنما تمتد حتى لدول غربية تشهد أفولا للفن التشكيلي وتجاهلا لمبدعيه.
وتابع قائلا “رسالة الفن تبقى رسالة خالدة قادرة على مجابهة التعصب والانغلاق، ومساعدة على التحرّر وقبول الآخر”.
وعن معرضه القادم، قال لـ”العرب”، إنه يُعدّ لطرح تصوّر جديد عن العُري الإنساني باعتباره تقديما لجوهر الإنسان دون تزييف مشاعره وتلوينها، وهو ما يتصوّر أن يكون صادما ومتحفظا عليه من جانب المجتمع.