ورد جوري

وأنت تدرس موضوعا في هندسة السيطرة على المنظومات باستخدام الكمبيوتر، ستجد أمامك اختبارا لاستقرار تلك المنظومات يسمى “اختبار جوري”. هو اختبار بسيط جدا ابتدعه عالم مهندس اسمه الياهو جوري.
اللقب جوري لقب دارج نسبيا في الغرب الناطق بالإنجليزية. الترجمة الحرفية له هي “المحلف”. ربما أتى من استدعاء أحدهم في محكمة فصار لقبه لأن هذا يعطيه في الأزمان الماضية صفة الثقة. “المحلفون” يختارون بعناية منذ إعادة تأسيس القضاء على أساس أن الحكم يصدر عن “محلفين” مكافئين مدنيا للمتهم. أما مهمة القاضي فهي إصدار تفاصيل الحكم.
لكن إلياهو جوري، كان “جوريا” من فئة أخرى. كنت في الولايات المتحدة أقدم بحثا في مؤتمر وكان يجلس في الصف الأول. رجل كبير في السن انتظر بصبر لحين انتهائي وانتهاء غيري من تقديم بحوثهم في جلسة استمرت أكثر من ساعة. ما إن انتهيت، حتى تقدم مني يسألني بالعربية: هل جئت من بغداد؟ قلت نعم ولكني أدرس في لندن الآن. ابتسم وقال لي أنا إلياهو إبراهيم جوري، يهودي عراقي من بغداد. غادرت العراق ودرست خارجه في بيروت ثم فلسطين ثم الولايات المتحدة في جامعتي هارفارد وكولومبيا. أتممت له: وأنت الآن في جامعة بيركلي – كاليفورنيا وقد امتحنت مرة بكتاب من كتبك في مادة في جامعة لندن.
كان سعيدا لأني أعرفه، لكن سعادته الكبرى كانت لكوني عراقيا. كنت متفاجئا بنفسي لأني لم أربط الاسم بوردة “الجوري” العراقية الأصيلة، المكافئ العاطر والمكتنز للروز الغربي. بعد أن تجاذبنا أطراف الحديث عن عراق الحصار في التسعينات قال لي إنه بلغ من العمر عتيا وإن أمنيته الأخيرة هي زيارة قبري والديه المدفونين في بغداد. توادعنا ولم نتواصل من بعدها. قبل أيام سمعت أنه توفي عن 97 عاما بعد عمر حافل بالعطاء العلمي.
إلياهو جوري هو من أول أجيال التهجير السياسي للناس من عالمنا العربي. لعله ترك العراق اختياريا، ووجد ذاته في الغرب. لكن منطقتنا قوة طاردة سرعان ما انضم المسيحي فيها لليهودي، ثم المسلم إلى اليهودي والمسيحي، ثم بدأت التقسيمات الأكثر طائفية. وهنا لا أريد أن أربط الأمر بهجرة العقول كما يحلو للبعض أن يجعل كل مهاجرينا من أصحاب الشهادات العليا. كل طباخ ورسام وميكانيكي وحرفي يهاجر هو خسارة. كل لون من ألوان المجتمع يغادر وطنه مطرودا، ذاتيا أو خوفا، هو خسارة. بعض الخسارات لا تعوض لأنها انقطاع. ترى أمام عينيك تاريخا من آلاف السنين ينتهي خلال 30 عاما من المشاكل السياسية. يبيعون بيوتهم وحيواتهم ويرحلون. أو يقتلون. تقل ألوان الجوري وروائحه وننسى. بعد جيل أو جيلين تمحى الذكريات مع أصحابها.