وجوه كوكش شخصيات معجونة من طين الناس

أعمال المخرج الراحل علاء الدين كوكش تتسم بإظهار معاناة المجتمع السوري منذ فترة الانتداب الفرنسي حتى ثورات الربيع العربي.
الثلاثاء 2020/12/22
مخرج أسعد جمهوره لكنه مات حزينا

عاش حياته متنقلا بين الفن والأدب والمسرح، وقدّم الكثير من وراء الكواليس لإسعاد جمهوره. وفي آخر ظهور إعلامي له، كان حديثه مؤشرا على المكابرة بسبب ظروف العيش في دار للمسنين وصفها بأنها تقدم خدمات جيدة تفوق خدمات بعض الفنادق، إلا أن تعابيره خانته، فأبت أن تخفي الحزن الظاهر على صوته وملامح وجهه.

عاش المخرج السوري الراحل علاء الدين كوكش في تلك الدار في حي المزة بالعاصمة السورية دمشق لمدة خمس سنوات، كانت صعبة للغاية وهو يكابد وحدته بعيدا عن ابنته الممثلة المعروفة سمر التي كانت معتقلة سياسية أفرج عنها مؤخرا، وكذلك بعيدا عن ابنه اللاجئ في بلجيكا، محاولا التأقلم مع كل المستجدات التي طرأت على حياته متوجها للإنسان والتلفزيون والكتاب. وحتى حين كان يلعب الشطرنج، كان يراه يحمل عنفا فكريا بين اللاعبين لتبرز أسباب الصراع، لم لا؟ وكوكش كثيرا ما كان يقول إن “معارك الإنسان لا تنتهي، الصراع يرافقنا حتى نموت“.

أطياف حارات القيمرية

شخصية "غليص" التي تمثل الشر المطلق، قادمة من عمق التكوين النفسي العربي، حيث يتحكم الثأر لخرق العادات والشيم بسلوك الرجال، بينما تظهر تناقضات المجتمع الذكوري في شخصية "أبوكامل"
شخصية "غليص" التي تمثل الشر المطلق، قادمة من عمق التكوين النفسي العربي، حيث يتحكم الثأر لخرق العادات والشيم بسلوك الرجال، بينما تظهر تناقضات المجتمع الذكوري في شخصية "أبوكامل"

كوكش المولود في حي القيمرية العريق عام 1942 لعائلة مثقفة، ومع مطلع الستينات من القرن الماضي، التحق بقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في كلية التربية بجامعة دمشق. ليرسله التلفزيون السوري إلى ألمانيا الديمقراطية في العام 1966 للالتحاق بدورة أساسيات الإخراج التلفزيوني لمدة ستة أشهر.

الفترة الذهبية لأعمال كوكش تعود إلى بداية السبعينات، وتمتد لنحو أربعين عاما، أخرج خلالها ما لا يقل عن ثلاثين مسلسلا في دمشق وعواصم عربية أخرى. البداية كانت بمسلسل ”مذكرات حرامي“ في عام 1969، ومنذ ذلك الوقت ظل كوكش يتحف الجمهور كل عام أو عامين بمسلسل جديد. وكان لمسلسله ”أولاد بلدي“ تأثير خاص على المجتمع السوري متناولا صراع الأجيال في مرحلة جاءت مع تولي الرئيس حافظ الأسد الحكم في سوريا، بعد سلسلة الانقلابات العسكرية والتدخلات الإقليمية في هذا البلد.

بصمة كوكش الذي يصفه الإعلام العربي والسوري دوما بـ”المخرج القدير“ على الدراما السورية، لا أحد من صناع الدراما أو نقادها أو متابعيها يستطيع إنكارها، خاصة مع انطلاقتها الأولى في مرحلة دخول التلفزيون الأسود والأبيض إلى بيوت السوريين المنفتحين آنذاك.

اتسمت أعماله بإظهار معاناة المجتمع السوري منذ فترة الانتداب الفرنسي حتى ثورات الربيع العربي، وهي حقبة زمنية تمثل قرابة 90 عاما. بدأت مع تجسيد الممثل الراحل هاني الروماني لشخصية “أسعد الوراق“ في المسلسل الدمشقي المأخوذ عن رواية “الله والفقر” للروائي السوري صدقي إسماعيل، والذي لا يزال عالقا في أذهان أجيال من السوريين، يتابعون بحسرة ذلك العامل اليتيم والصامت في معظم وقته، الحالم بترميم بيته وبزوجة تملأ عليه حياته، وقد تبدى ذلك أكثر في أعمال كوكش البارزة الأخرى مثل ”حارة القصر“ و“رأس غليص“ و“سيرة بني هلال“ الذي صوره في دبي.

أسعد الوراق حمّال بسيط يتيم، يكاد لا يقوم بأي فعل ولا ينبس بكلمة، رقيق مثل غالبية أناسنا في كل الحارات العربية، وحزين ومنكسر مثلهم أيضا، مسالم ومقهور

في عصر الملوّن قدّم مسلسل ”تجارب عائلية“ الذي كتبه وأخرجه، وذلك بعد أن أصبحت ابنته الوحيدة سمر في سن التاسعة، أراد أن يناقش فيه فكرة الديمقراطية المنزلية وتداول حكم العائلة. وقد شارك كوكش بالكتابة أيضا في عدة مجلات محلية وعربية لكتابة القصة القصيرة، والتي بدأت بمجلة ”الناقد“ اللندنية التي أسسها رياض نجيب الريس لرسم فضاء ثقافي ناقد في العالم العربي. ومن المجلات التي نشرت أعمال كوكش، آنذاك، مجلة ”سطور“ الشهرية الصادرة من القاهرة، و“جريدة الفنون” الكويتية ومجلة ”المعرفة” الثقافية الصادرة من دمشق. حيث كانت تلك المرحلة غنية بانتشار الوعي الثقافي الناقد.

لم يكن كوكش شخصا عاديا وسط مجتمعه الفني والأدبي، كتب للتلفزيون والمسرح وألّف الرواية والقصة، ومن بين أشهر أعماله رواية ”التخوم“ الصادرة عن المركز الثقافي في الدار البيضاء، والمجموعة القصصية ”إنهم ينتظرون موتك“ وكتاب ”السفر بعيدا“ في أدب الرحلات، روى فيه يوميات رحلته إلى تايلاند وماليزيا. وكانت له تجارب عديدة مع التمثيل كما حين شارك ببطولة فيلم للمخرج الإيراني سيف الله داد، وقد تم تكريمه عليه في مهرجان دمشق السينمائي التاسع.

غليص ورأسه

الفترة الذهبية لأعمال كوكش تعود إلى بداية السبعينات، وتمتد لنحو أربعين عاما، أخرج خلالها ما لا يقل عن ثلاثين مسلسلا في دمشق وعواصم عربية أخرى
الفترة الذهبية لأعمال كوكش تعود إلى بداية السبعينات، وتمتد لنحو أربعين عاما، أخرج خلالها ما لا يقل عن ثلاثين مسلسلا في دمشق وعواصم عربية أخرى

أفراد عائلة كوكش يغلف حياتهم الشغف بالفن وعالم الإخراج والتمثيل والمسرح، شقيقه رشاد كوكش كان مخرجا أيضا، والشقيق الآخر أسامة مهندس إضاءة في التلفزيون السوري، إلى جانب ارتباطه بالممثلة الراحلة ملك سكر التي عملت معه في عدة مسلسلات، منها الجزء الثالث من سيرة بني هلال، بدور الأميرة الشماء. وإذ منح زواجه من ملك سكر طابعا فنيا لأسرتهما، انتقل بالوراثة إلى ابنتهما سمر التي درست التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق.

أربعة عقود مليئة بالعطاء والتاريخ المهني الغني بالأعمال التلفزيونية التي عاشها كوكش، مقدما لجمهوره ما ينسيه ضنك العيش في مرحلة كانت سوريا تعاني فيها من ظروف اقتصادية صعبة وبطء في مرحلة التنمية والخدمات، رافقتها حوادث دامية في كل من حماة وحلب وجسر الشغور.

عانى كوكش من حصار بلدة المعضمية في ريف دمشق الغربي، حيث كان يقيم، حتى تمكن من الخروج للإقامة في دار المسنين. وهكذا كانت الطفولة والشباب في بيت دمشقي تلتحفه السماء والأرض، والذي وصفه بأنه يزيل كل الحواجز بين المرء والطبيعة، قائلا ”باللاشعور تسكنه الطبيعة وتنتقل معك بين الغرف“، وذلك في برنامج أجمل الذكريات على قناة الفضائية السورية مع الإعلامي مروان الصواف في بيت نظام الدمشقي الأثري. سيكون من الصعب على الدراما السورية تعويض كوكش، لاسيما وهي تعيش تصحرا انعكس على أدائها وأدى إلى انحطاط أعمالها في العقد الأخير.

بصمة كوكش الذي يصفه الإعلام العربي والسوري دوما بـ”المخرج القدير“ على الدراما السورية، لا أحد من صناع الدراما أو نقادها أو متابعيها يستطيع إنكارها

نادرا ما تجد عربيا لا يعرف من هو غليص، ولا ينطق بالمثل الذي أصبح دارجا على كل لسان، ”فلان قطع رأس غليص“، هي شخصية من شخصيات كوكش التي بث فيها الروح فانتشرت بين المشاهدين ودخلت وجدانهم، من خلال مسلسله الشهير “رأس غليص” الذي يحكي عن الثأر والانتقام، واختلاط القيم والخير والشر، الكرامة مع الحقد، والغضب مع المروءة، عادات العرب وتناقضاتها.

قدّم كوكش هذا العمل ذا الطابع البدوي أواسط السبعينات، من إنتاج تلفزيون دبي، عن قصة مريم المشيني، وقد أعدّ له السيناريو شقيق الممثل الراحل طلحت حمدي، خالد حمدي، بإشراف الكاتب القدير عبدالعزيز هلال، أما دور غليص فقد أداه الممثل الراحل عبدالرحمن آل رشي بمشاركة الفنانة المصرية هناء ثروت. وتم تصويره كاملا بعربة نقل خارجي في منطقة العوير بدبي. وقد حقق فيه كوكش سبقا فنيا، بسبب كونه أول عمل عربي يتم تصويره بالكامل خارج الأستوديوهات.

شخصية غليص التي مثّلت الشر المطلق، قادمة من عمق التكوين النفسي العربي، حيث يتحكم الثأر لخرق العادات والشيم بسلوك الرجال، والسبب الرئيسي لذلك كلّه غيرة غليص على دخيل لجأ إلى قبيلته لم يحترم أعداؤه حرمة جيرته، فقتلوه هو ووالد غليص حين كان طفلا، ليبدأ مشوار من الأحداث الدرامية التي زرعت في أذهان المشاهدين طويلا، حتى أن العمل أعيد إنتاجه من جديد بعد أكثر من ثلاثين عاما على نسخته الأولى.

أسعد الوراق

إظهار معاناة شخوصه وحرارة تفاعلاتهم، سمة تطبع أعمال كوكش وقد تجلت بقوة في مسلسلاته الشهيرة مثل "حارة القصر" و"أولاد بلدي" وغيرهما
إظهار معاناة شخوصه وحرارة تفاعلاتهم، سمة تطبع أعمال كوكش وقد تجلت بقوة في مسلسلاته الشهيرة مثل "حارة القصر" و"أولاد بلدي" وغيرهما

هذه الشخصية تأتي على النقيض تماما من شخصية غليص، الوراق حمّال بسيط يتيم، يكاد لا يقوم بأي فعل ولا ينبس بكلمة، رقيق مثل غالبية أناسنا في كل الحارات العربية، وحزين ومنكسر مثلهم أيضا، مسالم ومقهور.

كان أسعد يعيش في بيته المتهاوي الخرب الذي بقي له من الدنيا بعد رحيل والديه، أب مستهتر وأم مجنونة. شخصيته معجونة من صلصال الحياة، ولشدة طيبة الوراق يعتقد بعض الأهالي أنه ”مبروك“، وأنه من أهل الكرامات وأولياء الله الصالحين. حتى أن النسوة أخذن يطلبن منه الدعاء والقراءة لأطفالهن إن مرضوا، لعل الله يشفيهم ببركة الوراق.

وجوه كوكش، غالبا ما تأتي من حياة العرب، من عمق التكوين السيكولوجي للمشاهدين، فيتابعها الكبار والصغار، المثقفون والأميون، وتصل إلى وجدانهم بلا أي حواجز

ووسط هذا العالم الصوفي البسيط، بين الكد والعمل والروحانية الشعبية، تتدخل الحكومة ويفتري أحد عناصر الدرك على أسعد بأنه أساء إلى الدولة. فيزج به في السجن ويعاني أشد المعاناة جراء حرمانه من عالمه البسيط.

تلك الحادثة ستغيّر من مسار حياة الوراق إلى الأبد، ولا تزال تفاصيل يوميات الوراق الذي أدى دوره الممثل الراحل هاني الروماني ماثلة أمام أعين المشاهدين العرب، مع صرخة منى واصف بعد أن أصابه الخرس، ومع عربة أسعد وحتى شارة المسلسل التي اعتمدت أغنية ”يلبقلك شك الألماس“ مع صورة مشكاة، لتعطي ذلك البعد السري الذي يختلط فيه العشق الإلهي بالحب البشري وبالحياة العادية في خلطة بديعة أجاد صناعتها عبدالعزيز هلال وقدّمها كوكش لتنضم إلى سجل الروائع الأكاديمية التلفزيونية العربية. وقد تمت إعادة إنتاج العمل من جديد أيضا، وبعد عقود طويلة، وقدّم شخصية أسعد الوراق هذه المرة الفنان تيم حسن.

أبوكامل وأهل الحارة

كوكش يجمع عدة مواهب في شخصية واحدة، كاتبا دراميا وممثلا ومخرجا وروائيا ومسرحيا، وكان قد أصدر رواية بعنوان "التخوم" عن المركز الثقافي في الدار البيضاء، ومجموعة قصصية بعنوان "إنهم ينتظرون موتك"
كوكش يجمع عدة مواهب في شخصية واحدة، كاتبا دراميا وممثلا ومخرجا وروائيا ومسرحيا، وكان قد أصدر رواية بعنوان "التخوم"، ومجموعة قصصية بعنوان "إنهم ينتظرون موتك"

إن كان ثمة نسخة غير مصرية من شخصية ”سي السيد أحمد عبدالجواد“ التي ابتدعها الروائي نجيب محفوظ في ثلاثيته، فهي شخصية ”أبوكامل“ التي قدّمها كوكش مطلع التسعينات في مسلسل حمل الاسم ذاته، وهو استمرار لأعمال البيئة الشامية التي أسس لها كوكش قديما، وكان أبوكامل الذي تقمص شخصيته الفنان أسعد فضة محور كل الأحداث التي تفرعت إلى تفاصيل أدق وأعمق في نص كتبه فؤاد شربجي. وشارك فيه العديد من الممثلين السوريين الذين أصبح لكل منهم ”كاركاتره“ الخاص بعد هذا المسلسل، فالتصق به في مسيرته الفنية اللاحقة.

أما الحارة الشامية التي قدمها كوكش مبكرا، فقد استطاع من خلالها رسم إطار لم يخرج عنه أي عمل شامي أنتج من بعده، هو نوع من الواقعية الفنية المتقدمة التي تضع القوالب، مستندة إلى الحياة ذاتها، فتجلب من جنباتها بشرا عاديين لتبث فيهم الروح من جديد على الشاشة.

وهكذا كانت وجوه كوكش، غالبا ما تأتي من حياة العرب، لا السوريين وحدهم، من عمق التكوين السيكولوجي للمشاهدين، فيتابعها الكبار والصغار، المثقفون والأميون، وتصل إلى وجدانهم بلا أي حواجز.

سوريا

13