"هوس" عربي بالرواية

بعض الروائيين في أوروبا وفي اليابان وفي الهند وفي الولايات المتحدة الأميركية يحظون بشهرة تليق بنجوم السينما ولاعبي كرة القدم.
الثلاثاء 2019/10/08
بورخيس حذّر من خطورة الإسهاب في السرد

أظنّ أنّ المقولة الشهيرة “الشعر ديوان العربي” لا تنسجم إلاّ مع الحقبة التي سبقت الإسلام، إذ أنّ الشعر فيها كان حقا التعبير الأساسي للعرب في حلّهم وفي ترحالهم، وفي أزمنة السلم والحرب. وهو المرآة العاكسة لحياتهم في جميع تجلياتها.

لكن بعد الإسلام، وتحديدا في العصر العباسي وما بعده فقدت المقولة المذكورة شرعيتها بعد أن برز كتّاب كبار من أمثال الجاحظ والتوحيدي والأصفهاني وكتّاب المقامات. فقد تمكّن هؤلاء من أن يَسْمُوا بالنثر ليجعلوا منه تعبيرا في مستوى الشعر، بل متقدّما ومتفوّقا عليه. ومع عصور الانحطاط الطويلة، شهد كل من الشعر والنثر هبوطا لم يسبق له مثيل. وعلينا أن ننتظر القرن العشرين لتشهد الثقافة العربية تحولات كبيرة في مجالات وتعابير مختلفة ومتعدّدة.

وكان الشعراء هم الذين بادروا بالتجديد ليُعيدوا للشعر ألقه، جاعلين منه “ديوان العرب” من جديد. لذلك بات الناس يتطلّعون إليهم في كل آن وفي كل حين، ويهبّون إلى المهرجانات الشعرية بأعداد وفيرة لأنهم يجدون في الشعر ما يعكس واقعهم في جميع حالاته، السياسية منها والاجتماعية. وقد ظلّت هيمنة الشعر على مختلف التعابير الأخرى، مثل القصة والرواية، قائمة إلى حدود الثمانينات من القرن الماضي. وبعد ذلك شرعت الرواية تشهد انتشارا لم يسبق له مثيل مشرقا ومغربا، خصوصا بعد أن منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب للروائي الكبير نجيب محفوظ.

ومع نهايات القرن العشرين، أصبحت الرواية تتصدّر مكانة بارزة ومرموقة في اهتمامات العرب وسجالاتهم. بل أنها بدت أحيانا وكأنها الفن الوحيد الجدير بالعناية والتقدير. والبعض من النقاد راحوا يؤكدون بحماس، وبثقة عالية بأن زمن الشعر قد ولّى إلى غير رجعة، وأنّ الرواية ستكون مستقبلا “ديوان العرب الجديد” لتعيد الاخضرار والنضارة لشجرة الثقافة العربية عقب جدب طويل. وتحت تأثير مثل هذه الطروحات، ازداد الإقبال على الرواية كتابة وقراءة ليتقلّص الاهتمام بالشعر، وبالقصة القصيرة أيضا.

الإقبال على كتابة الرواية ليس ظاهرة عربية فحسب ولكنه في الثقافة العربية أصبح يشبه الهوس الكبير

وقد تكون الإغراءات المادية، والجوائز الكبيرة المرصودة لها، من بين أسباب “هَوَس” العرب راهنا بالرواية، لكن علينا ألاّ نغفل عن بعض الأسباب الأخرى. أوّلها اختفاء الشعراء العرب الكبار الذين كانوا يملؤون الدنيا ويشغلون الناس بقصائدهم التي ينتقدون فيها أوضاع العرب السياسية والاجتماعية وغيرها.

أما شعراء اليوم فقد اختاروا أن تكون قصائدهم مرآة لهمومهم الذاتية. كما أنهم انصرفوا في جلّهم إلى قصيدة النثر التي لم تتمكّن بعد من فرض نفسها على جمهور الشعر وأحبّائه. وربما لأنهم شعروا بأن الاهتمام بالشعر يشهد راهنا تقلّصا كبيرا، فإن البعض من الشعراء الجدد انصرفوا إلى كتابة الرواية بحثا عن موقع مضيء في الثقافة العربية.

أما الأمر الآخر فهو أنّ الإقبال على الرواية بات ظاهرة عالمية. لذلك أصبحت الروايات تتصدّر قائمة أفضل الكتب مبيعا في البلدان الغنية كما في البلدان الفقيرة. وبات بعض الروائيين في أوروبا، وفي اليابان، وفي الهند، وفي الولايات المتحدة الأميركية يحظون بشهرة تليق بنجوم السينما، ولاعبي كرة القدم. كما أن العديد من الأعمال الروائية القديمة والجديدة تحوّلت إلى أفلام فتنت الملايين في جميع أنحاء العالم.

لكن علينا أن نشير إلى أنّ هناك جوانب سلبية لهذا “الهَوَس” العربي بالرواية. من ذلك مثلا أن البعض يعتقدون أنه يكفيهم أن يكتبوا مئات الصفحات لكي يثبتوا أنهم أصحاب “نفس طويل”. لذلك راحت تنهال علينا روايات كثيرة بحجم كبير لكنها مملة، وخالية من أيّ متعة، ومن أيّ قدرة على الابتكار والتخيّل.

وكان بورخيس واحدا من الذين حَذّرُوا من خطورة الإسهاب في السرد. وكان يقول “إن طول العمل الروائي لا ينسجم لا مع عتمة عيني، ولا مع قصر الحياة البشرية”.

وكان الإيطالي كالفينو يرى أن عصرنا لم يعُد عصر “الروايات الطويلة” مثل التي عرفها القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين. لذلك كان ينصح بكتابة وقراءة الروايات القصيرة المكثّفة. ويضيف كالفينو قائلا “في أيامنا هذه، لا يمكن لسرد نثريّ حداثي حقا أن يضغط بثقله الشعري إلاّ على اللحظة الآنية المُعَاشَة التي يمكننا أن نعتبرها حاسمة ومعبّرة إلى أقصى حدود التعبير. لذا يجب أن تكون الرواية ‘في الحاضر’، وعليها أن تظهر لنا الفعلَ وهو يحدث أمام أعيننا بوحدة من الزمن ومن الفعل مثلما هو الحال في التراجيديا الإغريقية”.

14