هل هناك مسافة بين الشاعر والقصيدة؟

ترتبط فكرة الحداثة الشعرية المعاصرة في العالم العربي عادة بجماعة مجلة الشعر بشكل عام وبأدونيس بشكل خاص، ولكن هناك نقاد مهمون في مشهد النقد العربي لا يذكرون في الدراسات النقدية المعاصرة ببلداننا إلا نادرا رغم أنهم قد حاولوا كل حسب إمكانياته بلورة وغرس هذه الفكرة وترسيخها في الشعر العربي المعاصر.
يعتبر الناقد والمفكر المصري الدكتور عبدالغفار مكاوي في سجل النقاد العرب الذين قدّموا أفكارا مهمة بقصد تحديث القصيدة المكتوبة باللغة العربية، ويشير إلى هذا الكاتب عوني عبدالرؤوف في مقدمته اللامعة لملحمة جلجامش التي ترجمها عبدالغفار مكاوي عن اللغة الألمانية ترجمة مكتنزة “ولعل صلته الحميمة بالكثيرين من شعراء العصر جاءت نتيجة لذلك”، و”ليس أدلّ على ذلك من كتابه ‘ثورة الشعر الحديث’ الذي صدر في جزأين، وجاء نتيجة لاتفاقه مع صلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي على أن يقوم كل منهم بتقديم شعراء أوروبا للقارئ العربي”.
ويوضّح عوني عبدالرؤوف أكثر بقوله “وقد التزم الدكتور عبدالغفار مكاوي في ترجمته للشعر بما يراه من أننا لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عن التَّجارب الشعرية عند الأمم المختلفة”.
مرجعيات الرؤيا
لا شكَ أن دراسة مكاوي للشاعر الألماني هولدرلين، وترجماته لأعمال بريشت التي يمتزج فيها الشعر بالفن الراقي، ولنصوص فلسفية يونانية عريقة فضلا عن ترجمته لفلاسفة معاصرين آخرين منهم هيدغر ثم ترجمته للكتاب الموسوم بـ”ثورة الشعر الحديث” في جزأين تجعل منه واحدا من النقاد المفكرين الأساسيين في الحياة الثقافية العربية التي ما فتئت تحاول بناء أفق لتجربة التحديث الثقافي والأدبي في الثقافة العربية المعاصرة.
ولكن إبراز ارتباط اسم عبدالغفار مكاوي بفكرة الحداثة لا ينبغي أن يقلل من جهود عدد معتبر من نقادنا وشعرائنا الذين سكنتهم نزعة الحداثية الشعرية، ولكن المجال يضيق هنا لتعداد كل أسماء وأعمال هؤلاء، وكذا تحليل تجاربهم التي تتطلب أكثر من دارس ومحلل.
وفي هذا الصدد سأحاول تقديم بعض معالم نظرية الحداثة لدى عبدالغفار مكاوي، وأبدأ بتسجيل هذه الملاحظة الأولية وهي أن دراسته “ثورة الشعر الحديث: من بودلير إلى العصر الحديث” تعتبر من بين أبرز الدراسات التي ساهمت في وضع أسس التحديث الشعري في النقد العربي المعاصر.
وفي الواقع فإنّ الدكتور مكاوي يعترف أن فكرة دراسته هذه لا تنبع من تبصراته النقدية فقط، وإنما قد تبلورت في كتاب هوغو فريدريش “بناء الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر”.
انتهى زمن ما يسمى بشعر الإلهام والشعر المباشر وطغت على الشعر المخيلة الخلاقة التي يسيرها العقل الواعي
ويعني هذا الاعتراف أن كتاب الدكتور مكاوي هو تدقيق وتوسيع لكتاب فريدريش، وإن كانت أفكار هذا الأخير المركزية لم تثن الدكتور مكاوي عن تطوير بعضها وتوضيحها.
وفي هذا الخصوص كتب الدكتور مكاوي قائلا “ورحت أفتش عن جذور الحركة الشعرية المعاصرة حتى عثرت عليها في البدايات الرومانتيكية وكتابات بودلير وترجماته، وتتبعت خيوط نسيجه الشامل الذي بدأه بودلير وأحكم بناءه رامبو وملارميه، ثم طبع الشعر المعاصر كله بطابعه، واهتديت في هذا كله بكتاب قيم يُعدّ من أهم الكتب التي صدرت عن الشعر الحديث، بل أرجو ألّا أكون مغاليا إذا قلت إنه عند المختصين أهمها جميعا”.
لقد استخلص مكاوي، أثناء اشتغاله على هذا الكتاب أنّ “الشعر الأوروبي الحديث ينبع من رافدين كبيرين تدفق عطاؤهما في القرن التاسع عشر وفي بلد واحد هو فرنسا، وأعني بهما الشاعرين رامبو وملارميه وأنَ هذين الرافدين لا يلغيان ريادة الشاعر شارل بودلير الذي جاء قبلهما، كما لا يلغيان أيضا الشعراء الكبار الذين أعطوا للحداثة الشعرية أفقها الأوسع، ووضعها الإبداعي والنظري الحاسم أمثال إيليوت، وبول فاليري، وسان جون بيرس، وغارسيا لوركا وغيرهم من شعراء أوروبا العظام”.
في سياق تعقب الدكتور مكاوي للجذور الأولى للحداثة الشعرية الأوروبية فقد توقف مليّا لدى الشاعر الألماني نوفاليس، وعند أفكار روسو وديدرو. إنه يمكن القول بأن هذه الجذور تمتد إلى أبعد من ذلك، أي إلى عدد من المحطات الأساسية منها التجربة الشعرية للشاعر الإيطالي العريق دانتي والشعراء الرمزيين وغير ذلك من الأصول.
عناصر الحداثة
نتساءل: كيف يحدد الدكتور عبدالغفار مكاوي سمات الحداثة في الشعر؟ ففي هذا الشأن أبرز أن البناء الحداثي للشعر قد ارتكز في تقديره على وضع الخيال في مكان الواقع، وتأكيده لحطام العالم لا لوحدته، ومزجه بين عناصر متنافرة وناشزة، وتعمّده الاضطراب والتشويه، وتأثيره السحري عن طريق الغموض والألغاز وسحر اللغة، وإغرابه لكل مألوف أو معتاد، وإيثاره للتفكير الرزين المحسوب الشبيه بالتفكير الرياضي، واستبعاده للعاطفية الساذجة، أو ما سوف نسميه في ما بعد بالنزعة البشرية، وغياب ما يسمى بشعر الإلهام والشعر المباشر، وطغيان المخيّلة الخلاقة التي يسيّرها العقل الواعي، وتدمير نظام الواقع والأنظمة المنطقية والانفعالية المألوفة، واستغلال الطاقات الموسيقية في اللغة إلى أقصى حد ممكن، والاعتماد على الإيحاء بدلا من الفهم، وإعلان القطيعة مع التراث الإنساني والمسيحي، وإحساس الشاعر بانتمائه إلى عصر حضاري متأخر، وشعور بالتوحّد والتميّز، وتزاوج التعبير الشعري مع التأمل المستمر في هذا التعبير.
يرى مكاوي أن هذه العناصر التي أرساها الشاعر شارل بودلير قد صارت أساسا للإبداع الشعري عند رامبو وملارميه وشعراء أوروبيين آخرين. وينبغي التوقّف قليلا عند ما يعنيه باستبعاد الشاعر الحديث للنزعة البشرية.
إنّ عبارة التخلّي عن النزعة البشرية التي يستخدمها مكاوي نجدها مستخدمة عند كل من الناقد رولان بارط، والمفكر ميشال فوكو، بصيغة أكثر حدّة ألا وهي موت المؤلف. ففي الحقيقة، فإن هذه الصيغة ليست جديدة على الفكر الغربي، وعلى النقد وصناعة الشعر، بل هناك دعوات إلى نبذ الذاتية في الشعر سابقة عليها. فالشاعر الإيطالي دانتي كان سبّاقا إلى استخدام ما اصطلح عليه الناقد والشاعر توماس إليوت بالمعادل الموضوعي الذي يساعد على التخلّي عن النزعة الشخصية في الإبداع الشعري.
وهنا تطرح مجموعة من الأسئلة لكي تقودنا إلى إدراك كيف تمّ إنجاز هذه الصيغة. ماذا يعني الشاعر شارل بودلير بالتخلّي عن النزعة البشرية، وماذا نفهم من مصطلح المعادل الموضوعي الذي يحقق فنية القصيدة من جهة، والتخلي عن الذاتية التي هي عماد الحركة الشعرية الرومانتيكية؟ يوضح الدكتور مكاوي أن مجموعة “أزهار الشر” للشاعر بودلير “ليست من شعر الاعتراف الذاتي في شيء، وليست كذلك من قبيل المذكرات الشخصية الخاصة التي يسجل فيها الأديب قصة حياته وآلامه، على الرغم مما نجده فيها من عذاب شاعر وحيد شقي مريض”.
ونتيجة لذلك فإنّه “ولو حاولنا الربط بين إحدى هذه القصائد وبين ظروف حياته لما خرجنا من ذلك بشيء يلقي بعض الضوء على موضوعها. ولذلك فلا بدّ من القول إن بودلير هو أوّل شاعر حديث تنفصل حياته عن أدبه”، أي أنه بذلك قد “انفصل عن التقليد الشعري الرومانتيكي”.
ويجد الدكتور مكاوي تشابها بين طريقة بودلير في كتابة الشعر وبين طريقة الشاعر الأميركي إدغار ألان بو، وفي هذا الشأن يخلص إلى القول بأن ألان بو هو أوّل “من فصل فصلا حاسما بين الشعر والشاعر أو بين الكلمة والقلب”.
ولكي يوضح الدكتور مكاوي هذا الفصل بين الشعر وبين السيرة الذاتية للشاعر فقد استدل بمقطع مهم للشاعر بودلير وهو كالتالي “إنّ مقدرة القلب على الإحساس ليست في صالح العمل الأدبي”. وما هو البديل إذًا لكي يكون العمل الإبداعي أكثر تعبيرا عن العصر؟ فالبديل حسب الدكتور عبدالغفار مكاوي هو “جعل المخيّلة تقوم بالإحساس بدلا من القلب”.