هل مات عالم الآثار العراقي دوني جورج بنوبة قلبية حقا

ولد دوني جورج يوخنا عام 1950 في مدينة الحبانية لأبوين آشوريين من شمال العراق، وهي نفس المدينة التي أنجبت الشاعر الراحل سركون بولص. عرف جورج على الصعيد الدولي بأنه الرجل الذي أنقذ المتحف الوطني العراقي، والشخص الشافي لمحنة المواقع والتحف القديمة في العراق، في اعتراف بجهده الاستثنائي لإنقاذ الكثير من المواقع الأثرية التي نهبت أو دمرت بعد الحرب عام 2003، وكان له الفضل في إعادة أكثر من نصف الآثار التي سرقت من المتحف العراقي، وتقدّر بـ 15 ألف قطعة تعود إلى الحضارات السومرية والبابلية.
الخروج من بغداد
غادر عالم الآثار العراق عام 2006 مكرها بعد تعرض أولاده للتهديد بالقتل، وتعرضه شخصيا إلى ضغوطات كبيرة في عمله، لم يكشف عنها إلاّ عقب فراره إلى سوريا ووصوله إلى أميركا، مبينا أنه قدّم بسبب تلك التهديدات والضغوطات طلب التقاعد بعد أكثر من ثلاثين سنة خدمة في كل مجالات الآثار. ومما أثار الاستغراب حصول الموافقة على طلبه خلال ساعتين فقط من تقديمه دون أي استفسار من قبل الحكومة، مع العلم أن منصبه رئيسا لهيئة الآثار كان بدرجة وكيل وزير.
لقد أكد جورج أكثر من مرة، في محاضراته حول ما حدث للمتحف العراقي أثناء الغزو الأميركي، أنه كان شاهد عيان على ما حدث من استباحة لآلاف القطع النادرة والمخطوطات والرقيمات والتماثيل، وحاول مع أصدقائه من المهتمين والباحثين إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الإرث الضخم.
ورغم كل التبريرات التي قيلت عن وجود لصوص ليسوا معروفين قاموا بنهب المتحف العراقي وتدمير كثير من كنوزه، أو عدم وجود أوامر واضحة بالدفاع عن المتحف وآثاره ضد أي اعتداء، فإن الذين قاموا بهذا العمل كانوا يدركون جيدا ماذا يفعلون، ويبدو أنهم كانوا يملكون مخططات مفصلة للمبنى ومخازن الآثار وأماكن القطع الثمينة، حيث استخدموا الممرات والأبواب عن دراية تامة، وكانوا مزودين بالمعدات وآلات قطع الزجاج الكبيرة، وكل التسهيلات التي تكفل نقل القطع المطلوبة بالسرعة القصوى.
متخصصون في الآثار من جامعة كامبردج وضعوا قبل عام من الغزو الأميركي للعراق خطة للاستيلاء على آثار معينة
وكشف جورج عن أن “ثلاث مجموعات دخلت إلى المتحف، لكل واحدة منها مهمة، بحيث تكفّلت جميعها بالقضاء على المتحف بشكل كامل حتى قطع الأثاث والمعدات التكنولوجية والمكتبية وصور الأرشيف والمقاعد والطاولات، وكانت أخطرها المجموعة التي سلكت طريقا غير معروف حتى للعاملين في المتحف للوصول إلى المخازن، وسرقة أكثر من خمسة آلاف ختم أسطواني، وبعض الحلي الذهبية التي تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد.. وعندما وصلت تلك المجموعة إلى القاعة البابلية قام أفرادها بتحطيم رؤوس تماثيل الأسود لعدم قدرتهم على سرقتها بسبب كبر حجمها، وكأنهم كانوا يعملون وفق قاعدة: “خذوا ما تستطيعون حمله أما ما تبقى فحطموه أو أحرقوه”.
وفي محاضرة ألقاها جورج في المتحف الوطني السوري بدمشق عام 2006، ذكر فيها أن التحقيقات التي أجراها مع زملائه المختصين في 13 /4 /2003، أي بعد يومين من كارثة المتحف، أثبتت أن السرقة كانت عملية منظمة وليست عشوائية أو نتيجة أعمال شغب، وأن من قام بها مافيا كبيرة، وهناك إعداد محكم وترتيب مسبق، خاصة أن قطعا أثرية عديدة وصلت بعد أقل من أسبوعين من السرقة إلى أميركا وأوروبا، وهي فترة قياسية تدل على أن من قام بذلك مافيا منظمة وكبيرة جدا. وقد دعم عالم الآثار العراقي رائد عبدالرضى ما ذكره زميله دوني جورج، قائلا “إن أعمال النهب دامت يومين… وكان هناك لصوص محترفون وخبراء، رأيت بعضهم يعتني بالتحف بمهارة المحترفين خوفا من أن تصاب بعطب ما، حيث وضعوها في صناديق مجهزة أحضروها معهم وأوصلوها إلى سيارات النقل التي كانت بانتظارهم خارج المتحف”.
سرقة الحضارة
في صلة وثيقة بذلك كان دوني جورج قد حصل قبل عام من الغزو الأميركي على معلومات مؤكدة من بريطانيا تفيد بأن متخصصين في الآثار من جامعة كامبردج يضعون خطة للاستيلاء على آثار عراقية معينة عندما تقوم الولايات المتحدة الأميركية بغزوها المتوقع للعراق، وكانت تلك المعلومات متوافقة مع معلومات سابقة لدى الجهات الأمنية العراقية، على خلفية مطالبات غربية مرتبطة بالحركة الصهيونية بالحصول على الأرشيف اليهودي العراقي، الذي يحتوي على قرابة 3 آلاف وثيقة، و1700 تحفة نادرة توثق لسبي اليهود في بابل، إضافة إلى آثار يهود العراق آنذاك، وإلى تاريخ أبعد من العهد البابلي مع أقدم نسخة لـ”التلمود” عرفها العالم.
سرقة الآثار العراقية كانت عملية منظمة وليست عشوائية أو نتيجة أعمال شغب، ومن قام بها مافيا كبيرة بإعداد محكم
وبالفعل، قامت القوات الأميركية التي احتلت مبنى المخابرات العراقية في منطقة الحارثية بالاستيلاء على الأرشيف اليهودي العراقي في المبنى، بإشراف إسماعيل حجارة ممثل وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، وهو أميركي الجنسية أرسل من أميركا للأشراف على هيئة الآثار والتراث، ونقل ذلك الأرشيف خلسة إلى نيويورك بحجة معالجته من بعض التلف.
ثم قامت القوات الأميركية بالتوجه إلى موقع تخزين كنز نمرود الأسطوري، في أحد أقبية البنك المركزي العراقي، واستولت على650 قطعة ذهبية أثرية مختلفة الأحجام لا تقدر بثمن. كما توجه فريق أميركي من المتخصصين في الآثار السومرية والآشورية إلى الموقع الذي اكتشف فيه ذلك الكنز عام 1992، وقام بعمليات بحث وتنقيب جديدة.
كل ذلك كان يفضحه دوني جورج في محاضراته ولقاءاته الصحفية، لذا وقع استهدافه. ولم يكن استقباله السريع مع أسرته في مدينة بروكهافن الأميركية، ومن ثم عمله في جامعة ستوني بروك قرب نيويورك بمعزل عن مخطط استدراجه تمهيدا لإسكاته نهائيا، وإغلاق ملف نهب الآثار، وإسدال الستار على أكبر جريمة ارتكبت بحق العراق وطنا وشعبا وحضارة. فبعد سنة من وفاة دوني جورج أعلنت إسرائيل أنها استعادت الأرشيف اليهودي من الأميركان، وأقامت احتفالا ضخما، معتبرة الحدث انتصارا حقيقيا للأمة اليهودية.