هل تُعيد المصالحة الفرنسية - الجزائرية تشكيل موازين القوى في المنطقة المغاربية

المغرب بات أكثر ميلاً إلى تنويع شراكاته الدولية سواء مع الولايات المتحدة، التي اعترفت بسيادته على الصحراء، أو مع الصين التي أصبحت من أكبر المستثمرين في مشاريع البنية التحتية المغربية.
الاثنين 2025/04/07
خطوة تكتيكية تلقفتها الجزائر بإيجابية حذرة

المكالمة الهاتفية الأخيرة بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبدالمجيد تبون، يوم 31 مارس – آذار 2025، أثارت اهتماما كبيرا في الأوساط السياسية والدبلوماسية، ليس فقط من زاوية إعادة الدفء للعلاقات الثنائية المتوترة بين باريس والجزائر، بل أيضا لما تحمله هذه الخطوة من انعكاسات محتملة على مستقبل العلاقات الفرنسية – المغربية، وعلى مجمل التوازنات الجيوسياسية في المنطقة المغاربية.

العلاقات الفرنسية – الجزائرية كانت قد دخلت نفقا من التوتر خلال العامين الماضيين، نتيجة لتراكمات تاريخية وسياسية، كان أبرزه تصريح ماكرون في عام 2021 الذي شكك ضمنه في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار، فضلاً عن ملفات شائكة مثل الذاكرة الاستعمارية والهجرة والتأشيرات، بالإضافة إلى دعم باريس الضمني -ثم العلني- لمقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء المغربية، وهو ما اعتبرته الجزائر انحيازا واضحا ضدها. جاء إعلان ماكرون في يوليو – تموز 2024 عن دعمه لسيادة المغرب على الصحراء ليزيد الطين بلة، ويدفع الجزائر إلى تعليق عدد من أشكال التعاون الثنائي مع فرنسا، خاصة في مجالي الأمن والهجرة. غير أن السياقات الجيوسياسية المتغيرة، خاصة بعد تصاعد أزمات الطاقة في العالم وانكفاء الحضور الأوروبي في الساحل، دفعت باريس إلى مراجعة علاقتها بالجزائر، إدراكا منها لأهمية الجزائر كشريك في الطاقة وشريك أمني، وبحثا عن دور جديد أكثر براغماتية في شمال أفريقيا. من هنا يمكن فهم المكالمة الهاتفية بين الرئيسين ماكرون وتبون بوصفها محاولة “تكتيكية” لإعادة تموضع فرنسي أكثر توازنا في المنطقة، وهي خطوة تلقفتها الجزائر بإيجابية حذرة، وسط توقعات بعودة تدريجية للتعاون في ملفات الهجرة والطاقة والتنسيق الأمني.

في المقابل كانت الرباط تمضي في اتجاه معاكس، حيث شهدت العلاقات الفرنسية – المغربية دفعة قوية خلال النصف الثاني من عام 2024، تُوِّجت بزيارة رسمية للرئيس ماكرون إلى المغرب، وتوقيع 22 اتفاقية تعاون تشمل مجالات البنية التحتية والطاقات المتجددة والرقمنة والتعليم العالي. كما أعلنت فرنسا عن نيتها ضخ استثمارات تقدر بـ10 مليارات يورو في مشاريع تنموية بالصحراء المغربية، وهو ما اعتبر في الرباط “دعما واضحا للسيادة المغربية” وتجسيدا لتحول نوعي في موقف باريس من قضية الصحراء المغربية. ولعل الزيارة الرمزية لوزيرة الثقافة الفرنسية رشيدة داتي إلى العيون في فبراير 2025 شكلت لحظة مفصلية في تأكيد هذا الموقف، حيث لم تكتفِ داتي بالإشارة إلى دعم بلادها للحكم الذاتي، بل أكدت أن “فرنسا تعتبر الصحراء جزءا من التراب المغربي،” في تعبير غير مسبوق من مسؤول فرنسي رفيع. وقد قوبلت هذه التصريحات بترحيب واسع في المغرب، لكنها أيضا زادت من حدة التوجس الجزائري تجاه فرنسا، باعتبار أن “الحياد الفرنسي” التاريخي بات شيئا من الماضي.

◄ العلاقات الفرنسية – الجزائرية دخلت نفقا من التوتر خلال العامين الماضيين، كان أبرزه تصريح ماكرون الذي شكك ضِمنه في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار، فضلاً عن ملفات شائكة مثل الذاكرة الاستعمارية

ومع هذا التحول تبرز إشكالية جوهرية: هل تستطيع فرنسا أن تستعيد توازنها التقليدي بين الجزائر والمغرب، أم أن المصالحة الأخيرة مع الجزائر تحمل في طياتها محاولة فرنسية لإعادة التموضع بطريقة تُرضي الطرفين في ظاهرها، لكنها واقعيا تميل أكثر نحو الجزائر في ملفات أمنية واقتصادية، مع محاولة الحفاظ على “الحد الأدنى من الشراكة الإستراتيجية” مع المغرب؟ المغرب من جهته، وعلى ضوء هذه المستجدات، بات أكثر ميلاً إلى تنويع شراكاته الدولية، سواء مع الولايات المتحدة، التي اعترفت بسيادته على الصحراء في 2020، أو مع الصين التي أصبحت من أكبر المستثمرين في مشاريع البنية التحتية المغربية، ناهيك عن تطور غير مسبوق في العلاقات مع إسرائيل في إطار اتفاقات أبراهام. هذا التوجه يعكس إرادة مغربية للخروج من “الظل الفرنسي” التقليدي، وبناء تموقع مستقل يراعي المصالح الوطنية دون الارتهان بحسابات باريس.

بالنظر إلى التطورات المتلاحقة في العلاقات الفرنسية مع كل من الجزائر والمغرب، تبدو باريس وكأنها تخطو على حبل مشدود في منطقة مغاربية تشهد تحولات متسارعة في تحالفاتها وأولوياتها. فبينما تسعى فرنسا إلى إعادة تموقعها كشريك فاعل في جنوب المتوسط، تبدو أدواتها التقليدية أقل فاعلية أمام صعود لاعبين جدد وتنامي النزعة الاستقلالية في السياسة الخارجية المغربية. إن المصالحة مع الجزائر قد تمنح فرنسا هامشا أكبر للتحرك في ملفات الطاقة والهجرة والأمن، لكنها في الوقت ذاته قد تضعف مصداقيتها كشريك موثوق لدى الرباط، خاصة إذا لم تقترن هذه المصالحة بتطمينات حقيقية بشأن استمرار دعمها للمواقف المغربية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية. من جهته، لا يبدو المغرب مستعدا للعودة إلى مواقف المجاملة الدبلوماسية التي اتسمت بها علاقاته مع باريس لعقود، بل بات يطالب بشراكة متكافئة تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على إرث تاريخي لم يعد وحده كافيا لضمان التحالفات.

في هذا السياق يمكن القول إن مستقبل العلاقات الفرنسية – المغربية سيُحسم بناءً على قدرة باريس على فهم التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة المغاربية، وعلى استعدادها لإعادة صياغة دورها فيها بما يتماشى مع منطق السيادة والشراكة لا الوصاية. وفي حال فشلت في ذلك، فإن فرنسا تخاطر بأن تجد نفسها على هامش التفاعلات الجيوسياسية الجديدة، في منطقة باتت تتحرك بإيقاع مختلف، وبأجندات لم تعد تُكتب في باريس وحدها.

9