معرض كانتون فير الصيني تجربة تغير مفاهيم التجارة والاستثمار

منذ اللحظة الأولى لوصولي إلى مدينة غوانزو الصينية، شعرت أنني أمام تجربة استثنائية. كان المشهد مختلفا تماما عن أي معرض تجاري زرته من قبل، فالمساحات الشاسعة التي تحتضن آلاف العارضين، والحشود المتدفقة من رجال الأعمال والمستثمرين والخبراء من مختلف أنحاء العالم، أعطتني انطباعا بأنني في قلب مختبر اقتصادي عالمي، حيث تتشكل ملامح المستقبل التجاري وتُرسم سياسات اقتصادية قد تؤثر في موازين القوى الدولية.
أثناء تجوالي في أروقة المعرض، شعرت بأنني في مدينة داخل مدينة، عالم مواز للحركة التجارية التقليدية، حيث لا مكان للانتظار أو التردد. هنا، كل شيء يتحرك بسرعة؛ المفاوضات تُجرى على مدار الساعة، والشركات تعرض أحدث منتجاتها وتقنياتها بطرق مبتكرة، والمشترون يبحثون عن أفضل الصفقات، بينما تبرم الحكومات والشركات الكبرى عقودا يمكن أن تغيّر خارطة الأسواق في المستقبل القريب.
في كل دورة، يجذب معرض كانتون فير عشرات الآلاف من الزوار من مختلف دول العالم، من رجال أعمال ورواد مشاريع ناشئة إلى مسؤولين حكوميين وممثلي مؤسسات اقتصادية كبرى. لم يكن الأمر يقتصر على عرض المنتجات، بل كان أشبه بمؤتمر اقتصادي ضخم، حيث تتلاقى الثقافات التجارية وتتشكل تحالفات جديدة قد تؤثر على التجارة الدولية لعقود قادمة.
ما لفت انتباهي هو حجم التنوع في المنتجات والتخصصات، فالمعرض ينقسم إلى مراحل متعددة، كل منها تركز على مجال معين، من الصناعات الثقيلة والآلات المتطورة إلى الإلكترونيات الذكية والمنتجات الاستهلاكية، ومن المنسوجات والموضة إلى الطاقات المتجددة والتكنولوجيا البيئية. في كل زاوية، يمكنك أن ترى كيف أن الصين لا تعرض فقط منتجاتها، بل تضع نموذجا اقتصاديا يدمج بين الابتكار والتصنيع بكفاءة استثنائية.
في ظل هذا الحراك الاقتصادي الهائل، كان من الواضح أن بعض الدول أكثر حضورا وتأثيرا من غيرها. التقيت بممثلين عن شركات عربية جاؤوا لاستكشاف الفرص والاستفادة من التقنيات الصينية المتقدمة، سواء في قطاع الطاقة، أو الصناعة، أو الزراعة الحديثة. لكن مقارنة بالحضور الأوروبي والأميركي وحتى الآسيوي، لا تزال المشاركة العربية بحاجة إلى إستراتيجية أكثر جرأة واستثمارا أعمق في العلاقات الاقتصادية مع الصين.
بعض الدول العربية تسعى لاستقطاب الاستثمارات الصينية في البنية التحتية والصناعات التحويلية، بينما تبحث أخرى عن منافذ جديدة لتصدير منتجاتها إلى السوق الصينية والأسواق الآسيوية. لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية الانتقال من مجرد استيراد المنتجات الصينية إلى الدخول في شراكات تصنيع مشترك، ونقل التكنولوجيا، وإعادة توجيه سلاسل التوريد لصالح الأسواق العربية.
◙ مقارنة بالحضور الأوروبي والأميركي والآسيوي، لا تزال المشاركة العربية بحاجة إلى إستراتيجية أكثر جرأة واستثمارا أعمق في العلاقات الاقتصادية مع الصين
إحدى أكثر اللحظات التي أثارت اهتمامي في المعرض كانت زيارتي لجناح مخصص للطاقة المتجددة. هناك، شاهدت تقنيات متطورة في تخزين الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح عالية الكفاءة، والتي يمكن أن تحدث ثورة حقيقية في مجال الطاقة بالدول العربية. الصين اليوم ليست فقط أكبر مُصنع في العالم، بل أصبحت رائدة في تطوير حلول مستدامة يمكن أن تعيد رسم خارطة الطاقة عالميا.
الدول العربية، التي تمتلك موارد طبيعية هائلة لكنها تعاني في بعض الأحيان من نقص التكنولوجيا، يمكنها أن تستفيد من هذا التقدم عبر شراكات إستراتيجية مع الشركات الصينية. تخيل لو أن الاستثمارات الصينية في الطاقة الشمسية تم توجيهها لدعم مشاريع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كيف يمكن لذلك أن يعزز استقلال الطاقة ويوفر حلولا مستدامة لقطاعات واسعة من الاقتصاد العربي؟
على الرغم من أن المعرض يبدو في ظاهره حدثا تجاريا بحتا، إلا أن البعد السياسي كان حاضرا بقوة. الصين، من خلال كانتون فير، لا تعرض فقط منتجاتها، بل تسعى إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي العالمي عبر إبرام صفقات طويلة الأمد وبناء شراكات إستراتيجية مع الدول والشركات الكبرى. من الواضح أن هناك رؤية اقتصادية متكاملة تحرك الحدث، حيث تستخدم بكين قوتها الصناعية والتجارية كأداة دبلوماسية لتعزيز علاقاتها مع مختلف القوى العالمية.
في ظل التوترات التجارية بين الدول الكبرى، يبدو أن الشركات الصينية تدرك جيدا أهمية تنويع أسواقها، وهو ما يفتح المجال أمام الدول العربية لتكون شريكا إستراتيجيا في إعادة تشكيل هذه الخارطة الاقتصادية الجديدة.
مع انتهاء زيارتي للمعرض، عدت محملا بأفكار ورؤى جديدة حول كيف يمكن أن يتطور الاقتصاد العربي في ظل هذه المتغيرات. كانتون فير ليس مجرد معرض تجاري، بل هو اختبار حقيقي لقدرة الدول والشركات على مواكبة التحولات الاقتصادية العالمية.
الاقتصاد الحديث لم يعد قائما على مجرد الاستيراد والتصدير، بل أصبح مبنيا على التكامل الصناعي، نقل التكنولوجيا، وتوسيع سلاسل التوريد. الدول التي تدرك هذه المعادلة وتعمل على الاستفادة من الفرص المتاحة في مثل هذه المنصات، هي التي ستتمكن من المنافسة في المستقبل.
عندما غادرت المعرض، كنت أدرك أن الحاضر قد تغير، والمستقبل يكتبه من يملك الجرأة على التفكير خارج الأطر التقليدية. في كانتون فير، تُصنع الفرص، ومن يدرك قيمتها يستطيع أن يحجز لنفسه موقعا متقدما في الاقتصاد العالمي الجديد.