المحلية المتقدمة في المغرب.. إصلاح بين الطموح والواقع

تحقيق النجاح يتطلب مقاربة شمولية تتجاوز العوائق التقنية والمالية إلى بناء نموذج محلي أكثر استقلالية وفاعلية.
الخميس 2025/03/06
دعوات لاستقلالية أكبر في المحليات

بعد 14 سنة من إدراج المحلية المتقدمة في دستور 2011، ومرور 10 سنوات على صدور القوانين التنظيمية المؤطرة لها، يظل تنزيل هذا الورش محط نقاش بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والخبراء في مجال تدبير الشأن المحلي. كان الهدف الأساسي من المحلية المتقدمة تمكين الجهات من تدبير شؤونها بشكل أكثر استقلالية، وتقليص الفجوات التنموية، وتعزيز العدالة المجالية، لكن الواقع يشير إلى أن هذا المشروع لا يزال يواجه تحديات على المستويات التشريعية، المالية، الإدارية، والسياسية، مما يؤثر على تحقيق الأهداف المسطرة.

ومع صدور القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالمحليات، والقانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، والقانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، تم تحديد الاختصاصات الذاتية لكل مستوى من مستويات الجماعات الترابية، إضافة إلى الاختصاصات المشتركة والمنقولة من الدولة. نظريًا، أعطى هذا الإطار القانوني للمحليات هامشًا واسعًا من الحرية في اتخاذ القرارات، حيث أصبحت المحليات مسؤولة عن التخطيط الإستراتيجي الجهوي، وتنفيذ مشاريع التنمية، وجلب الاستثمارات، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية داخل ترابها.

لكن على أرض الواقع، يواجه هذا الإطار القانوني مجموعة من الإشكاليات التي تحد من فاعليته. فوفقًا لتقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2021، لم يتم نقل سوى 30 في المئة من الاختصاصات المقررة للمحليات في إطار الاختصاصات المنقولة، حيث لا تزال العديد من القطاعات الحيوية مثل الصحة، والتعليم، والبنية التحتية تحت سيطرة الحكومة المركزية، ممّا يحدّ من قدرة المجالس المحلية على تنفيذ سياسات مستقلة.

إصلاح العلاقة بين السلطة المركزية والمجالس المحلية يظل ضروريًا لتحقيق استقلالية حقيقية للجهات، وهو ما يتطلب إرادة سياسية واضحة للانتقال إلى مرحلة أكثر تقدمًا في تنزيل الجهوية

ولا يمكن الحديث عن تدبير محلي فعّال دون الاستقلالية المالية، ومع ذلك، فإن المحليات لا تزال تعتمد بشكل كبير على التحويلات المالية القادمة من الدولة. ووفقًا لمعطيات وزارة الاقتصاد والمالية لسنة 2022، فإن 60 في المئة من مداخيل المحليات تأتي من التحويلات الحكومية، بينما تشكل الموارد الذاتية للمحليات نسبة ضعيفة لا تتجاوز 30 في المئة، مما يجعل المحليات غير قادرة على تمويل مشاريعها التنموية بصفة مستقلة.

وفي هذا السياق، فإن ضعف الموارد الجبائية المحلية يمثل أحد العوائق الكبرى أمام تحقيق الاستقلالية المالية للمحليات. رغم أن القانون التنظيمي للمحليات منحها صلاحية فرض بعض الرسوم والضرائب المحلية، إلا أن مردوديتها تبقى محدودة بسبب ضعف النشاط الاقتصادي في بعض المحليات وغياب آليات فعالة لتحصيل المداخيل. فالتقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لسنة 2022 أشار إلى أن 70 في المئة من الموارد الجبائية المحلية تتركز في ثلاث مدن فقط، وهي الدار البيضاء-سطات، الرباط-سلا-القنيطرة، ومراكش-آسفي، بينما تعاني الجهات الأخرى من ضعف مداخيلها، مما يكرّس التفاوتات التنموية بين الجهات.

رغم أن أحد الأهداف الرئيسية للمحلية المتقدمة هو تحقيق التوازن بين الجهات، إلا أن توزيع الاستثمارات العمومية لا يزال يميل لصالح المحليات الكبرى. كما كشف تقرير صادر عن المندوبية السامية للتخطيط سنة 2021 أن 60 في المئة من الاستثمارات العمومية تتركز في خمس جهات فقط، بينما تعاني الجهات الأخرى من ضعف التمويلات المخصصة لمشاريعها التنموية. وهذا الخلل في التوزيع يعمق الفوارق المجالية ويؤدي إلى استمرار الهجرة الداخلية من المناطق الأقل تنمية نحو المدن الكبرى، مما يزيد من الضغط على بنياتها التحتية.

وبالنظر إلى المشاريع الكبرى التي تم تنفيذها خلال السنوات الأخيرة، نجد أن معظمها موجه نحو المدن الكبرى، حيث استفادت الدار البيضاء من مشاريع مهيكلة مثل “الميتروبول الذكي”، والرباط من مشروع “الرباط مدينة الأنوار”، في حين تعاني جهات أخرى مثل درعة-تافيلالت أو كلميم-واد نون من تأخر كبير في تنفيذ مشاريع البنية التحتية.

وإلى جانب المشاكل القانونية والمالية، تعاني المحليات من نقص واضح في الموارد البشرية المؤهلة لتسيير شؤونها. فتقرير للمديرية العامة للجماعات الترابية سنة 2020 أشار إلى أن 44 في المئة من الموظفين العاملين في المحليات لا يمتلكون تكوينًا كافيًا في مجالات التخطيط المالي وتدبير المشاريع، مما ينعكس سلبًا على نجاعة تنفيذ البرامج التنموية.

يجب إعادة النظر في توزيع الاستثمارات العمومية لضمان تحقيق العدالة المجالية بين المحليات، مع وضع إطار مؤسساتي واضح لتنسيق العمل بين المحليات وباقي الجماعات الترابية

ورغم أن القوانين التنظيمية منحت المحليات حرية التوظيف والتعاقد مع كفاءات متخصصة، إلا أن ضعف الموازنات وعدم وضوح آليات التوظيف يعرقل استقطاب الأطر المؤهلة. كما أن استمرار التداخل بين السلطة المركزية والمحليات يجعل قرارات المجالس المحلية خاضعة في الكثير من الأحيان لموافقة السلطات المركزية، مما يقلل من فاعلية التدبير المحلي.

وتظل العلاقة بين الجهات والجماعات الترابية الأخرى (العمالات، الأقاليم، والجماعات) غير واضحة، حيث لا يوجد تنسيق فعال بين مختلف المستويات. وفي الكثير من الأحيان، تتضارب المشاريع التي تطلقها الجهات مع المخططات التي تضعها العمالات والجماعات، مما يؤدي إلى ازدواجية في التسيير وإهدار الموارد.

وأشار تقرير صادر عن البنك الدولي سنة 2020 إلى أن أحد أسباب تعثر المحلية المتقدمة في المغرب هو غياب إطار تنظيمي يحدد بوضوح كيفية تنسيق المشاريع بين مختلف الفاعلين المحليين، مما يؤدي إلى تعطيل تنفيذ المشاريع وتأخير إنجازها. كما أن العلاقة بين رؤساء المحليات والولاة تبقى أحيانًا متوترة بسبب تضارب الصلاحيات، حيث لا يزال الولاة يحتفظون بصلاحيات واسعة تتجاوز أحيانًا اختصاصات رؤساء المحليات المنتخبين.

فبعد مرور أكثر من عقد على إطلاق هذا الورش، أصبح من الضروري إعادة تقييم السياسات المتبعة لضمان تحقيق الأهداف التي رسمها الدستور. وينبغي تسريع عملية نقل الاختصاصات الفعلية إلى المحليات، وتعزيز تمويلها الذاتي عبر إصلاح النظام الجبائي المحلي، وتوفير آليات ناجعة لتحصيل الضرائب. كما يتوجب تعزيز القدرات الإدارية عبر استقطاب كفاءات مؤهلة قادرة على تسيير المشاريع الجهوية بفاعلية.

إضافة إلى ذلك، يجب إعادة النظر في توزيع الاستثمارات العمومية لضمان تحقيق العدالة المجالية بين المحليات، مع وضع إطار مؤسساتي واضح لتنسيق العمل بين المحليات وباقي الجماعات الترابية، بما يضمن انسجام السياسات التنموية ويحدّ من التضارب في الاختصاصات. كما أن إصلاح العلاقة بين السلطة المركزية والمجالس المحلية يظل ضروريًا لتحقيق استقلالية حقيقية للجهات، وهو ما يتطلب إرادة سياسية واضحة للانتقال إلى مرحلة أكثر تقدمًا في تنزيل الجهوية.

المحلية المتقدمة ليست مجرد خيار إداري، بل هي مشروع مجتمعي يروم تحقيق التنمية الشاملة والعدالة المجالية. وإذا لم يتم تجاوز العوائق الحالية، فإن هذا الورش سيظل مجرد إصلاح نظري دون تأثير حقيقي على حياة المواطنين. فتحقيق النجاح في هذا المجال يتطلب مقاربة شمولية تتجاوز العوائق التقنية والمالية إلى بناء نموذج محلي أكثر استقلالية وفعالية.

6