هل تموت الحضارات بشكل كامل

غالبا لا تموت الحضارات، لعلها تتجدد.. تعود وتتبلور في أشكال جديدة وصيغ محدثة. فالبشر في عام 2024 ما زالوا يؤمنون بما سطره الأولون قبل سبعة آلاف عام.
ولعل الحضارات تتحايل على نفسها، فتستخدم مرادفات ومصطلحات جديدة، تُناسب عصرا جديدا مثلا. ولعلها تكون أشبه بتحديث لنسخ قديمة، تتحايل على العامة بكون الأغلبية تُعرض عن القراءة والبحث والتدقيق، وجاهزة لتبني أي قوالب جاهزة، والشواهد كثيرة بأن الثقافة البشرية والفكر البشري ما زالا يدوران في فلك أول يتماهى مع ما اعتقده البشر في مدنهم الأولى وحضاراتهم البشرية الأولى، لكن، هل تموت الحضارات بشكل كلي؟
لا أعتقد.. والدليل أن ما يؤمن به الملايين من الأشخاص في جزء منه هو نتاج الحضارات البشرية الأولى.. من أشورية وبابلية وأكادية وزرادشتية وفرعونية وإغريقية وعربية.. وغيرها الكثير.
مثلا، إن عدنا إلى ملحمة جلجامش، سنجد الكثير من القصص التي ما زال يتداولها الإنسان اليوم في أديان مختلفة وبقاع مختلفة، هي ذات الوصايا التي آمن بها الملايين على مدار أربعة آلاف عام.. يبدو أن أساسها واحد خرج من أول مدن بشرية حضارية.
ويبدو أن الحضارات البشرية المختلفة حتى في التاريخ القديم.. كانت تتناقل أساطيرها وأفكارها وتحليلاتها وتنسخ عن بعضها. تطور بعض من قصصها وسيرها ولكن الأساس واحد.
يجب ألاّ يعيش البشر على أنقاض صراع ثقافات وحضارات بدأت قبل ألفي عام، وربما أكثر، لتُرسّخ في لاوعي الشعوب وتصبح الفتيل لمعاناة البشر المستمرة
المتعمق في أولى حضارات بلاد الرافدين، والباحث والمنقب في تاريخ الحضارات البشرية الأولى في ثقافتها وفكرها وقيمها، سيجدها مصدر ثقافة وفكر وقيم الكثير من الشعوب والمجتمعات حتى يومنا هذا، بعد أن تم نسخها وتشذيبها وتعديل تفاصيلها، لكن الأساس حاضر وبقوة.
الآثار شاهدة والحروف المنقوشة على الصخور دليل صارخ، والمفكرون والمتخصصون في هذا المجال يستطيعون الإسهاب في شرح التفاصيل وتقديم الأدلة، والأدب المتوارث يروي أدلة قوية ودامغة على قوة سير الأولين وتأثيرهم الممتد حتى بعد أكثر من خمسة آلاف عام في الوعي الجمعي للملايين من الأشخاص.
إذا، هل تموت الحضارات؟
لا أعتقد.. حقيقة أن التطور المادي والتكنولوجي الذي حظيت به البشرية وساهم في تحسين جودة حياتها وتسريعها بشكل أو بآخر وربطه العالم كان من المفترض أن يوازيه تطور فكري حضاري في فكر الإنسان ونظرته وبصيرته، في دساتيره وقوانينه، ليتماشى مع تطور العلم، والتغير في وعي الإنسان وإدراكه.
أن لا يعيش الإنسان في عام 2024.. ويستخدم شاشات وتتحكم به أكواد وبرمجيات حاسوبية، ثم تجده يبني دولا على أساس “حلم ممالك لم يثبت علم الآثار وجودها حتى اليوم”.. أوهام تقسم العالم إلى أفراد ومجموعات بشكل متطرف وعنيف تولّد مآسي العصر الحديث.
كان من المفترض ألاّ يعيش الإنسان في عام 2024، وهو ما زال يُفجّر ويقتل ويصارع بسبب وقائع حصلت قبل ألف عام.. وربما أكثر.
على الإنسان أن يحاول تجديد فكره وقيمه ودساتيره وقوانينه وتعديلها بما يُناسب ازدياد أعداد سكان العالم، وبما يُناسب التطور الذي حدث.. أن يثور على ثقافته بما يوازي الثورة التكنولوجية
يجب ألاّ يعيش البشر على أنقاض صراع ثقافات وحضارات بدأت قبل ألفي عام، وربما أكثر، لتُرسّخ في لاوعي الشعوب وتصبح الفتيل لمعاناة البشر المستمرة.
في 2024، كان من المفترض أن يبني الإنسان قيما شاهقة من الاحترام والحوار المتبادل توازي ناطحات السحاب التي يتباهى بها، وعليه تعبيد الطريق بالتقبل والوسطية والحكمة في ما يمنحه سلاما أكثر بما يوازي تعبيده لطرقه لتتسع لمركباته المتزايدة.
كان عليه أن يحاول معالجة كل الصدمات الحضارية ويحاول تجديد كل ما ورثه عن الأولين بما يجعل الواقع يتسع للجميع، بدلا من الجحيم الذي يتم تعزيزه والحرص على بقائه وتمدده باسم حضارات الأولين، وباسم أساطير السابقين، وباسم أوهام يختلف التاريخ وتختلف الآثار على حقيقة وجودها وماهية حقيقتها.
وكان عليه الحرص على استخدام البوتوكس لتقليل تجاعيد العفن الفكري الحاضر، وتجميل ثقافته وروحه وإنسانيته وبرمجة عقليته بدلا من الاكتفاء بتعديل صوره على إنستغرام لتجميل تفاصيل وجهه الزائلة.
على الإنسان أن يحاول تجديد فكره وقيمه ودساتيره وقوانينه وتعديلها بما يُناسب ازدياد أعداد سكان العالم، وبما يُناسب التطور الذي حدث.. أن يثور على ثقافته بما يوازي الثورة التكنولوجية، أن يحاول فهم حقيقة التاريخ والماضي ليتعلم منه، لا ليدافع عنه ويستحضره ويعززه، بما يضمن للجميع، قدر الإمكان، عيشا كريما، ساكنا، مسالما ومحترما، وبما يُناسب المليارات من البشر الذين يتنافسون على الأعمال والشهرة والملذات والسلطة في هذا العالم.
علينا مجاراة تطور العلم بتطوير وعينا وإدراكنا وتهذيب أفعالنا وردود فعلنا.. وإلا ما فائدة كل هذا التطور الشكلي؟