"هروب".. لوحات من عالم الشعر والموسيقى

محمود حمداني يستعمل الصدفة للبحث عما لا يمكن العثور عليه.
الجمعة 2023/05/05
انقلاب على المشهد التقليدي

رغم الحدود الواضحة بين الفنون المختلفة فإن ما بينها مسارب سرية ومعلنة تقود باتجاه بعضها البعض، من هذه الفنون الفن التشكيلي والموسيقى. وربما لا تبدو العلاقة واضحة بشكل نهائي بين الفنين لكن تأمل العديد من التجارب يؤدي عمق تأثيرها كل منهما في الآخر.

تترافق كلمة “بحث” بشكل عام مع الرغبة في الوصول إلى حالة أو شيء ما. غير أن هذا ليس ما ينطلق منه نص الفنان الإيراني محمود حمداني في الصالة الفنية اللبنانية “أرت أو 56 ستريت”. فقد ذكر الفنان في أكثر من مناسبة أن أجمل ما في الفن هو الحرية التي تسكنه وتمكّنه من تجاوز ذاته وتجاوز المعقول، وأي فن يعرقل مسار الحرية التي تحرك روح الفنان لا بد أن يساهم في اعتقال إبداعه ومحاولة وصوله إلى آفاق ينفتح بعضها على بعضها الآخر في تدفق لا يتوقف.

وتحيلنا قناعة هذا الفنان إلى ما قاله يوما الفنان بابلو بيكاسو “أنا لا أبحث، بل أعثر”. والعثور بالنسبة إلى الفنان محمود حمداني هو مجرد منصة تدعوه إلى الإيغال أكثر وأبعد في عالمه الفني.

انسيابية الخطوط

فنان يرسم سمفونية موسيقية بالأبيض والأسود
فنان يرسم سمفونية موسيقية بالأبيض والأسود

المعرض ينطلق في الخامس من شهر مايو الحالي ويضم مجموعة أعمال بالحبر على الورق وهي بالأسود والأبيض والمطعّم بعضها بقليل من الظلال اللونية. تنتمي الأعمال المعروضة إلى مجموعات مختلفة تحت عناوين هي “الطريق الذي لا ينتهي” و”طمأنينة” و”قصائد” و”آثار”.

يعنون الفنان الإيراني محمود حمداني معرضه في صالة “أرت أون 56 ستريت اللبنانية بـ “هروب”. أما الهروب المقصود به فهو ليس مباشرا أو حرفيا أو حتى مجازيا بقدر ما هو إحالة إلى تعبير من معجم الألفاظ التابع لعالم الموسيقى الكلاسيكية.

لدى رؤية الأعمال الفنية يمكننا الجزم بأن ما يقصده الفنان محمود حمداني هو ترجمة بصرية لتفلت النوتات الموسيقية التي يعشقها مجتمعة في انهمار يذكر بالشلالات المتدفقة بانسياب حر أو بتلك المُتعثرة ببضعة صخور تعترض مساراتها الأفقية والعمودية الظاهرة في لوحات الفنان. حتى العناوين الفرعية للمعرض المذكورة آنفا تنتمي أيضا إلى الفن “السماعي” إذا صح التعبير.

القصائد التي يشير إليها الفنان هي تلك المخصصة لأن تكون مُغناة أو مترافقة مع موسيقى. ويحتضن هذا العنوان أعمالا تشبه مخربشات شاعرية شديدة الحساسية. أما “الطمأنينة” فهي تعريب غير حرفي للعنوان الموضوع باللغة الأجنبية ويلمّح إلى ما هو متعارف عليه بـ”قداس لراحة نفس المتوفى” ومن المعلوم أن الترتيل المُحمل بالموسيقى هو من مميزات هذا القداس.

تنساب الخطوط في هذه الأعمال كالشعر لتغرق في تجريدة غنائية دقيقة يناجي فيها الفنان ذاته بسكون واضح. ويجيء عنوان “آثار”، الذي يضم ربما المجموعة الأجمل من لوحاته، عنوانا يليق بسلسلة من الانسيابيات الأفقية لأشجار معراة من أوراقها تبدو وكأنها تنخطف خطفا في فراغ أبيض ما نلبث إلا أن نراه كالصفيحة التي تُكتب عليها النوتات الموسيقية. وما النوتات في لوحاته هذه إلا شرايين وشعيرات دموية، وهي أيضا تارة بروق تلتمع في فضاء اللوحة البيضاء وتارة أخرى أغصان تنخفض وتعلو وترق وتغلظ لأشجار مُثبتة على خط أسود يمتد منذ بداية اللوحة وصولا إلى نهايتها.

 وفي هذه المجموعة أعمال تنحدر فيها الخطوط السوداء الرقيقة من الأعلى إلى الأسفل وتتداخل أحيانا ليلامس بعضها حفاف أرض اللوحة. أكثر ما توحي به هو انقلاب على المشهد التقليدي. سقوط “لا ينتهي” في إشارة إلى أحد العناوين التي وضعها الفنان.

عامل الصدفة

عامل الصدفة مهم جدا
عامل الصدفة مهم جدا

يقول الفنان حول هذه المجموعة إنه أنجزها عبر “النفخ الحبر على الورق”، وإنها “دراسات حول الصدفة والإرادة. وهي أعمال أجد بعمق أصداءها في هذه القصيدة للشاعر غو شينغ”. في القصيدة التي يضعها الفنان من ضمن بيانه الفني سيعثر زائر المعرض على الأجواء التي عكست الحياة التي تضج في مجمل أعماله.

عامل الصدفة مهم جدا وتلقفها في اللحظة المناسبة هو أمر حاسم. والأهم من عامل الصدفة الاستعداد القلبي والروحي لتلقي ما سيولد على حين غرة في القصيدة وتظهيره كما في اللوحة.

الانغماس في مراحل تحسس الطريق أثناء الممارسة الفنية يحكم تحول الأعمال وولادة عناصرها وتشعب خطوطها. يذكر محمود حمداني في بيان الفنان المرافق لمعرضه حول كيفية ولادة أعماله أن آلية العمل ومساره لصيقان بفكرة “البحث عما لا يمكن العثور عليه” وهي فكرة أساسية عند الصوفي جلال الدين الرومي الذي يتمحور شعره حول الإحساس بالفقد والحب الفائض والبحث الذي لا يعرف هوادة، ولا هو يريد أن يعرفها.

يذكر البيان الصحفي المرفق بالمعرض أن جملة الأعمال التي يقدمها الفنان في الصالة هي تحية إلى حبه للموسيقى وللغنائية الشعرية المتجذرة في روحه، وأنه بفعل تكرار العناصر واختلافها بنى الفنان سمفونيته الموسيقية بصمت ظاهري وحيوية إيحائية تغني الذهن وتطربه.

ويضيف البيان الصحفي أن محمود حمداني “استوحى أعماله الفنية من موسيقى باخ. وهي محاولة لترجمة موسيقاه إلى نص بصري حيث يلعب الاختزال والتقشف اللوني أدوارا مهمة في ضبط نظام اللوحة وإقامة التوازن فيها دون أخذها إلى أُطر مقفلة لا يؤمن بها الفنان، بل يسير عكس قوانينها الثابتة”

يذكر أن الفنان هو من مواليد إيران سنة 1958 وهو يعمل ويعيش في نيويورك. بدأ مسيرته الفنية في وقت متأخر بعض الشيء وكان قد حصل على شهادة في مادة الرياضيات ثم حصل على الماجستير في مادة الإدارة العامة من جامعة هارفرد. كان الرسم بالنسبة إليه مجرد هواية قبل أن يصبح شغفا واحترافا. بدأ بالعرض الفني منذ سنة 1999 ليحصل على اعتراف عالمي بأعماله الناطقة بتقشف شاعري. من المعروف عن الفنان تأثره بالشعر الفارسي والفن الياباني التقليدي. عرضت أعماله في المتحف البريطاني في لندن وفي متحف الفن المعاصر في نيويورك وله معارض فردية ومشاركات في معارض جماعية في نيويورك و باريس ولندن ودبي و لوزان وهونغ كونغ.

15