هروب الفتاة من منزل أسرتها.. عقوق أم تمرد لكسب المزيد من الحقوق

التربية الأسرية القاسية تدفع الفتيات إلى البحث عن حضن أكثر أمانا خارج الأسرة.
الاثنين 2021/08/16
هجران بيت العائلة هرب من الضغوط الأسرية

يؤكد خبراء علم النفس والعلاقات الأسرية أن هروب الفتاة من بيت أسرتها خطأ مشترك بين الفتاة والأسرة تتحمل فيه العائلة جانبا كبيرا من المسؤولية، ذلك أن طريقة التربية والمتابعة للبنات والتعامل معهن بطريقة فظة وغليظة من شأنها أن تضاعف الضغوط عليهن وتدفعهن إلى ارتكاب فعل غير مقبول اجتماعيا مثل الهروب من المنزل.

القاهرة - عندما أمسك ياسين عيسى، وهو حارس عقار بمنطقة شعبية بالقاهرة، بهاتف ابنته الكبرى ذات يوم فوجئ بمحادثة عاطفية بينها وبين شاب فما كان منه إلا أن حطم الهاتف واعتدى عليها لفظيا وجسديا وحبسها في غرفة منفصلة لعدة أيام عقابا لها عمّا وصفه الرجل بالجريمة الأخلاقية.

وأمام توسلات الفتاة وشقيقاتها أفرج الأب عنها بعد أن وعدها بالذل والإهانة بقية حياتها، حتى استيقظ ذات يوم ولم يجدها في المنزل، ثم مضت ساعات وتلقى محادثة هاتفية من رقم مجهول تبين أنها الابنة لتقول له إنها هربت ولن تعود إليه مرة أخرى، وعليه التعود على اختفائها لسنوات مقبلة.

توسل الأب إلى ابنته بأن تعود مع وعدها بعدم التعرض لها، لكن جاءت كلماته متأخرة. فالفتاة حسمت أمرها بالهرب ولم تبلغه بمكانها وبعد أسبوع استقبل مكالمة جديدة منها تبلغه بأنها تزوجت عرفيا من الشاب الذي كانت تتحدث معه بشكل عاطفي، وقام والدها بقهرها بسببه.

محمد هاني: هروب الفتاة من بيت أسرتها خطأ مشترك بينها وبين عائلتها
محمد هاني: هروب الفتاة من بيت أسرتها خطأ مشترك بينها وبين عائلتها

قال الأب لـ”العرب” إنه لم ينكر قسوته وترهيبه لبناته طوال الوقت كي لا تسول لهن أنفسهن الانحراف الأخلاقي والسلوكي في مجتمع لا يرحم المرأة ودائما ما يعاير أسرتها بأنها سبب تمردها على العادات والتقاليد، واليوم يجني ثمار الاعتداء اللفظي والبدني عليهن بأن هربت الابنة الكبرى.

تعيش أسرة الفتاة حياة بائسة مليئة بالمنغصات، فالأب والأم يشعران بالعار والفضيحة والخوف، وباقي الفتيات يراودهن الإحساس بأن والدهن سيكون أشد قسوة عليهن حتى لا يسلكن نفس مسار الهرب مثلما فعلت الابنة الكبرى، في حين تسعى عائلة الأب للبحث عن الهاربة للانتقام منها.

أضاف الأب، وهو يبكي كالطفل، أن ابنته الهاربة لم تكن أخلاقها سيئة، لكنه كان قاسيا عليها حتى لا تسقط في براثن الشباب الفاسد أخلاقيا من خلال الاحتكاك الدائم بهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وتبين له بعد ذلك أن تصرفاته كانت خاطئة ولم يحتو الابنة أو يسمع منها بهدوء أو يحتضنها بعاطفة.

يمكن البناء على هذه الواقعة بأن العنف الأسري تجاه الفتيات أصبح محفزا على هروبهن بعيدا عن أحضان العائلة للارتماء بين أحضان غريبة، ربما تكون أقل رحمة ورأفة وعاطفة من الأب والأم في ظل اتساع الهوة الثقافية بين الآباء والأبناء حول نمط التربية المطلوب تطبيقه.

يصعب فصل هروب الفتيات عن منازلهن بتمسك الكثير من الآباء باتباع أسلوب القهر والإذلال والقسوة في التربية كمدخل لتقويم السلوك دون اكتراث بأن التحاور والتفاهم والتصادق بين الطرفين هو المسار الأكثر قبولا للأجيال الصاعدة التي صارت تتشدق بالتمسك بالمعاملة الإنسانية المتحضرة من الأهل.

لا يتردد الكثير من الآباء في الاعتداء اللفظي والإهانة البدنية تجاه الفتيات إذا ارتكبن خطأ، أو تصرفن بطريقة تخالف العرف والتقليد المجتمعي، باعتبار أن الترهيب أقوى سلاح للردع وعدم تكرار نفس الخطأ من دون منح الفرصة للفتاة للدفاع عن نفسها وتبرير تصرفها أو الاعتراف بجهلها بأنه خطأ أو جريمة مجتمعية.

Thumbnail

ومنح الفضاء الإلكتروني وعصر السماوات المفتوحة وعصرنة الأعمال السينمائية والدرامية التي تناقش التحرر المجتمعي الكثير من الفتيات الجرأة على التمرد على تقاليد الأسرة، فلم يعد الهروب من المنزل جريمة لا تغتفر مثلما كان في الماضي، بل وسيلة لإعلان العصيان على نمط التربية والسلوكيات الأسرية عموما.

وصارت تدخلات الأسرة في تقرير مصير الفتاة في كثير من المجتمعات العربية مبالغا فيها بشكل فج، مثل شكل الملابس وطبيعة التعليم وهوية الوظيفة وتحديد مواعيد للخروج والعودة، والتحكم في نوعية الأصدقاء، وتحريم الاختلاط بالشباب، أو التحدث معهم على الإنترنت، ووضع مساحيق التجميل والإجبار على الزواج من شخص بعينه.

هذه التصرفات تشعر الفتاة بأنها تعيش في سجن فتبدأ بالتفكير في التمرد على هذا الواقع أمام الضغوط النفسية التي لم تعد تتحملها، فتقرر الهرب لأيام وربما تختفي نهائيا، وهناك فتيات يخترن الاختفاء المؤقت لدق ناقوس الخطر ولفت انتباه الأبوين بأن طريقة التربية والتعامل خاطئة ويجب تغييرها.

وظلت حوادث هروب الفتيات في المجتمعات الشرقية قاصرة تقريبا على الأنثى المتعلمة التي تنتمي لأسرة تعيش في المدينة ولديها استقلال مادي حتى صارت الظاهرة واضحة، وتشارك فيها فتيات المناطق الريفية والشعبية والحضرية، اللاتي تنتمين إلى عائلات فقيرة أو حتى مقتدرة ماديا باعتبار أن الأسباب واحدة وعادلة.

الهروب من المنزل لم يعد جريمة لا تغتفر ، بل وسيلة لإعلان العصيان على نمط التربية والسلوكيات الأسرية عموما

وقال محمد هاني استشاري الطب النفسي والعلاقات الأسرية بالقاهرة إن هروب الفتاة من بيت أسرتها خطأ مشترك، فلا يمكن التبرير المطلق للأنثى لأن التعاطف معها بدون أسباب يوسع نطاق الهروب عند باقي الفئات، لكن الأسرة عليها مسؤولية من حيث طريقة التربية والمتابعة للأبناء والتعامل بطريقة فجة وغليظة.

وأضاف لـ”العرب” أن مشكلة مناخ التربية الأسرية في الكثير من المجتمعات الشرقية دائما ما تضع الفتاة في دائرة الاتهام المسبق، فتكون هناك تدخلات في كل شيء يخصها ما يضاعف الضغوط ويدفعها للخلاص من هذا العبء ولو بارتكاب فعل غير مقبول اجتماعيا، مثل الهرب، وإذا فكرت في العودة تشعر بأن الأسرة ستنتقم منها.

ولفت المختص النفسي المصري إلى أن أسباب هروب الفتاة من بيت الأسرة صارت كثيرة ويصعب حصرها، ما يعكس الخلل العائلي الذي أصبح موجودا، فهناك إجبار على الزواج، ومنع للارتباط من شاب بعينه، وحرمان من الخروج من المنزل، وقسوة في العلاقة بين الآباء والأبناء، ما يفقد الفتاة الاحتواء الذي تتمناه من أقرب الناس.

ولا تدرك أغلب الأسر أن الفتاة التي تفتقد الحنان داخل عائلتها قد تبحث عنه عند غرباء، فالأنثى التي لا تشعر بالأمان مع والديها لن تتردد في تسليم نفسها لشاب تعتقد أنه أكثر عطفا وأمانا، فتتزوجه عرفيا أو تهرب معه، لكنها غالبا ما تصطدم بأن هذا الشاب طالما وجدها صيدا سهلا لن تكون بالنسبة إليه سوى سلعة زهيدة.

ويرى متخصصون أنه لا يمكن اعتبار قرار الفتاة بالهروب وليد اللحظة، لكنه نتيجة تراكمات نفسية وذهنية لم تعد تستطيع تحملها، وأمام صمتها والتزامها تشعر الأسرة بأنها سعيدة بالحياة التي تعيشها، في حين أنها طوال الوقت تبحث عن اللحظة المناسبة للابتعاد عن السجن الأسري، بقطع النظر عن المصير المجهول الذي ينتظرها.

وما زالت أزمة الكثير من الأسر تكمن في أنها تفتقد الحد الأدنى من الوعي والفهم لطبيعة التعامل مع الفتيات وفق كل مرحلة عمرية تعشنها، فهن يحتجن معاملة أثناء سن المراهقة تختلف جذريا عن المرحلة التالية، وإن لم تجد الدفء والأمان في منزلها، وتم التنكيل بها عاطفيا وجسديا وغاب الحوار معها فقد يكون خيار الهروب حتميا.

وقد تكون الفتاة المراهقة بطبيعتها ذات نزعة استقلالية ورغبة في إثبات الذات والتمرد على القيود، وهذه مرحلة تحتاج إلى احتواء وليس عنفا، وباعتبار أن أغلب الهاربات مراهقات، فإنه صار على العائلة العربية أن تعيد حساباتها في شأن تربية الفتاة والاعتراف بخصوصية كيانها قبل أن تبحث عن أحضان غريبة مهما كانت العواقب.

21