نيران العزل تذكي التنمّر على الفنانين في مصر

تحوّل التنمّر على المشاهير ونجوم الفن وأسرهم من ممارسات فردية إلى ظاهرة متفشية خلال الأيام الماضية، فمجرد بث صور شخصية لأيّ فنان أو فنانة على مواقع التواصل الاجتماعي يكفي لأن يقع صاحبها أو صاحبتها تحت وابل من التهكم والسخرية والعنف اللفظي، لتتوالى حلقات الأخذ والرد بين الفريقين.
القاهرة – بات نشر نجوم الفن، صورة أو كتابة تعليق أو تدوينة على مواقع التواصل الاجتماعي، مخاطرة يجب أن تدرس أبعادها جيدا قبل التورّط، في ظل وجود جيش من المتنمّرين القابعين خلف شاشات الهواتف الذين يشحذون أناملهم للهجوم وافتراس الضحايا وجرهم لمعارك لا تنتهي من العنف اللفظي وترك شروخ نفسية بعضها يحتاج وقتا للالتئام.
ولم تكن معايرة الفنانة يسرا اللوزي بمعاناة طفلتها من الصمم سوى حلقة من سلسلة طويلة لموجات تنمّر متكرّرة على المشاهير وأسرهم، لا يعرف فيها المتنمّرون حدودا، ولا يضعون خطوطا حمراء لحدود معاركهم، فباتوا يتهكمون من المرض والوفاة والزواج، وحتى العاهات الجسمانية للصغار.
وكشفت جائحة كورونا عن خروج التنمّر من قمقم الممارسات الفردية إلى الظاهرة المتنامية، بداية من الشماتة في مرض فنانات كبار مثل الراحلة رجاء الجداوي، وحتى الفنانة يسرا، وانتقاد نزولهنّ إلى العمل في سن كبيرة، والدعاء عليهنّ بالوفاة، كما حدث مع سوسن بدر ونادية الجندي دون ذنب سوى أن الله أنعم عليهما بعمر مديد.
وأصبح المتنمّرون كأنهم آلهة العدالة والجمال، يجوبون مواقع التواصل للبحث عن مذنبين من وجهة نظرهم، ومحاسبتهم على أفعالهم الدنيوية، فتمنح اللعنات لفنانة ارتدت ملابس عارية، وتتوعّدها بجحيم الآخرة، وتعتبر المرض عقابا دنيويا على الذنوب، ورغبة الإنسان في العيش بحرية والتقاط الصور له ونشرها خطيئة.
لم تعد أي جلسة تصوير خاصة “فوتو سيشن” للفنانين والفنانات مع أبنائهم تخلو من السخرية، مثل التنمّر على لون بشرة نجل الفنان محمد رمضان السمراء، أو شكل بنات كل من شريف منير وأحمد سلامة وكريم فهمي، وامتد إلى التدخل في حياتهم الخاصة وخياراتهم العاطفية كأسباب زواج مذيعة شهيرة من فنان كبير في السن، أو اقتران آسر ياسين من امرأة يرونها محدودة الجمال.
وقال الناقد الفني طارق الشناوي، لـ”العرب”، إن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت الباب أمام الجماهير لمتابعة التفاصيل اليومية لحياة نجوم الفن، ووفّرت مجالا خصبا لذوي النفسية السيئة والكراهية الدفينة للظهور تحت أسماء مستعارة للهجوم والإساءة.
ظل التنمّر مقترنا بجمهور الرياضة، فجمهور فريق مثل الزمالك المصري ظل لسنوات طويلة يتحاشى الاعتراف بتشجيع لاعبي فريقه علنا خوفا من موجات السخرية التي يتعرضون لها مع أي هزيمة للفريق، واتخذ شكلا فنيا مع انتشار أغاني الفيديو كليب حتى تشكلت روابط “الأولتراس الفنية” التي تدعم مطربا إزاء المنافسين وتشنّ حربا إلكترونية حال تعرضه لانتقاد.
وتوفّر وسائل الإعلام المصرية، خاصة المواقع الإخبارية الإلكترونية، مجالا واسعا للتنمّر بشكل غير مباشر عبر استحداثها اهتماما بملابس الفنانين في المهرجانات ووضع نفسها شرطيا للموضة، فتنتقد فساتين الفنانات وتفتح الباب أمام الجمهور للتلاسن، والتعدّي على حق الإنسان في ارتداء ما يريد.
كلنا متنمّرون
طالب طارق الشناوي بالتفرقة بين التنمّر والنقد، فقطاع من الفنانين أساء توظيف المصطلح الدارج حتى بات كل هجوم على أعمالهم الفنية سُبابا وتحقيرا، وبعضهم ينجرّ إلى الرد بعنف على المتنمّرين فيساعدون دون قصد على تنامي الظاهرة، ويتناسون أنهم قدوة للجمهور، وأفضل الحلول الرد الهادئ والمنطقي مثلما فعلت كل من الفنانة يسرا اللوزي وسوسن بدر.
وردّت اللوزي أخيرا على متابع لها وصفها بـ”أم الطرشة” (أم البكماء) بأنها فخورة بابنتها التي ستصبح إنسانة متفوقة ومثقفة وتعتمد على نفسها وتحقّق أحلامها دون أن تكون عبئا على أحد، بعدما أصبحت مصدر إلهام لها، للحديث في البرامج للتوعية بالكشف المبكر للمواليد ما يسهل اكتشاف مشكلاتهم وعلاجها في سن صغيرة.
وتعرّضت سوسن بدر لموجات من التنمّر تتعلق بعمرها وطريقة قصّ شعرها، آخرها حينما تمنى متابع موتها عندما نعت المخرج السوري حاتم علي، وردت الفنانة المخضرمة بهدوء، قائلة إن الموت رحمة ولطف من الله بالطيبين لأنهم يتمنون لقاءه، بل وشكرته على دعائه.
واختلف الأمر تماما مع الفنان شريف منير، حينما تعرّض للتهكم بعد نشره صورة له مع بناته، فهاج وماج وتوعّد من انتقدوه بالقبض عليهم، وتصويرهم أثناء احتجازهم، وفضحهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولا يمكن تبرئة الفنانين من التسبب في تنامي التنمّر، فسلوك بعضهم على مواقع التواصل الاجتماعي لا يقل عن المتنمّرين المراهقين، مثل الفنان أحمد فهمي الذي دأب على التهكم من النجوم، ودخل في صراعات إلكترونية مع مشاهير كلاعب الزمالك “شيكابالا” الذي دخل معه في خصومة وصلت إلى درجة الاشتباك بالأيدي في أحد المناسبات أخيرا.
الشهيد الحي
يحاول بعض الفنانين في مصر استثمار الحديث عن التنمّر في مصادرة حق النقد الفني لأعمالهم، كالفنان أحمد فلوكس الذي تعرّض لموجة سخرية شديدة من متاجرته بدوره في فيلم “الممر”، كأحد شهداء حرب الاستنزاف مع الاحتلال الإسرائيلي، فنظم جولات إلى المدارس وتحدّث مع وسائل الإعلام، كما لو كان حاضرا في الحرب بالفعل، حتى تمت تسميته “الشهيد الحي”.
وتكرّر الأمر مع الفنان محمد ممدوح، الذي تعرّض لحملة انتقادات بسبب تلعثم مخارج حروفه، ورغم تقبل الفنان الأمر، إلا أن زملاءه في الوسط الفني هاجموا كل من طالبه بالخضوع لجلسات علاج للحبال الصوتية، رغم أن الخلاف في القضية غير فني، ولم يتضمن الاقتراب من قريب أو بعيد بأداء الفنان الذي يلقى إشادة مستمرة.
ويصعب اعتبار التنمّر الفني ظاهرة مستحدثة، فالتنمّر الحقيقي موجود منذ بدايات السينما المصرية، مثل كمال الشناوي الذي قال إن أنور وجدي لا يصلح أن يكون فتى الشاشة الأول بسبب بدانته، أو رفض المنتج رمسيس نجيب أن يلعب أحمد زكي دور البطولة في أحد أعماله لأنه أسمر البشرة، ورفض صباح ترشيح توفيق الدقن لبطولة فيلم “الرجل الثاني” أمامها، لأنه قصير القامة، لكن الأمر لم يمتد أبدا للجماهير التي كانت وقتها أرقى من الممثلين أنفسهم، ربما لغياب مواقع التواصل في حينه.
ويسهم ما ينشره الفنانون على صفحاتهم في ضخّ دماء الحقد الطبقي في شرايين الملايين من الناس، بنشر صور لأساطيل من السيارات والطائرات الخاصة والقصور الرحبة وموائد الطعام العامرة بالملذات، وسط مجتمع ذابت فيه الطبقة الوسطى من الضغوط، وتتزايد فيه الطبقات الفقيرة التي لا تملك إلا قوت يومها.
ويرتبط الأمر أيضا بالإقبال المفرط من الفنانات كبار السن على جلسات التصوير “فوتو سيشن”، مثل نبيلة عبيد ويسرا ونادية الجندي، والتي تثير الضغائن في نفوس قطاعات شابة تكابد مشاق الحياة، فهرمت قبل موعدها وتحوّل لون شعرها إلى الأبيض في الثلاثينات، فتجد راحتها النفسية في الهجوم على من يعيشون شبابا بعد الستين.
وأكّدت الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس في القاهرة، أن المشكلة الأساسية في الفجوة الإنسانية المتسعة بين الجمهور والفنانين، سواء في العالم الحقيقي أو حتى في موضوعات الدراما التي يتناولونها، وأغفلت دورها في تربية الذائقة الفنية لدى الجماهير، ومناقشة قضاياهم، والتعبير عن مشكلاتهم.
وانعزل الجيل الحالي من الفنانين عن الجمهور في حياتهم وباتوا مخلوقات من عجينة أخرى، على عكس الرعيل الأول، حيث كانت الصور الملتقطة في منازلهم تظهرهم كبشر مثل الجميع، يعدون الطعام في مطابخ تقليدية، ويقطنون في منازل لا تختلف كثيرا عن الطبقات المتوسطة، في الأثاث والموقع وحتى في ملابسهم المنزلية.
وغاب الفنانون عن أدوارهم الاجتماعية والسياسية، فأغلبهم اعتبروا نشاطهم المجتمعي قاصرا على لقب سفير النوايا الحسنة أو مجرد التأييد للحملات الخيرية افتراضيا أو حتى الظهور المجاني في إعلانات التبرعات دون الانغماس فيها، على عكس الجيل القديم الذي كان يستقل حافلات نقل الركاب والقطارات لجمع تبرعات لصالح المجهود الحربي وأسر الشهداء والمحتاجين.
وأوضحت خضر، لـ”العرب”، أن انتشار التنمّر ضد نجوم الفن، سببه اختلال المنظومة القيمية في المجتمعات، وذوبان الخط الفاصل بين المزاح والسخرية والتهكم، كما يعتبر نتاجا طبيعيا للتعليم الذي سقط دوره التربوي.
وأضافت، أن مواجهة التنمّر ضد نجوم الفن أو غيرهم، يجب أن تكون شاملة تشارك فيها المؤسسات كافة، بداية من الإعلام في وقف البرامج التي تنمي الظاهرة وتجر الضيوف للهجوم على بعضهم لنيل المشاهدات والفنانين أنفسهم بترقية المضمون الذي يقدّمونه، وكذلك الأسر والمؤسسات التعليمية التي لديها دور في غرس منظومة القيم.
ظاهرة عابرة للحدود
أجرت مصر قبل خمسة أعوام تعديلات على قانون العقوبات تضمن تعريفا واضحا للتنمّر ليصبح كل من قام بنفسه، أو بواسطة الغير، باستعراض القوة، أو التلويح بالعنف، أو التهديد بأيهما، أو استخدامه ضد المجني عليه، أو اتخاذ تدابير أخرى غير مشروعة، بقصد الإساءة من ناحية الجنس، أو العرق، أو الدين، أو الأوصاف البدنية، أو الحالة الصحية، أو العقلية، أو المستوى الاجتماعي، بقصد تخويفه، أو وضعه موضع السخرية، أو الحط من شأنه، أو إقصائه من محيطه الاجتماعي.
وتضمن القانون عقوبات صارمة تصل إلى الحبس لمدة عام، وغرامة تصل إلى 100 ألف جنيه (6.5 ألف دولار)، لكن المشكلة في فعالية تطبيقها في ظل اعتماد غالبية المتنمّرين على مواقع التواصل الاجتماعي على أسماء مستعارة، والأعداد الكبيرة لهم بعد انتشار الهواتف المحمولة في يد ملايين المراهقين الشباب، وتجاوزها الحدود الجغرافية للدولة في وجود متنمّرين عابرين للحدود.
ويمثل ما تعرّضت له الفنانة اللبنانية إليسا بعد ظهورها بطبيعتها دون مساحيق تجميل دليل على أن التنمّر لم يعد يعرف وطنا، حيث تبارت التعليقات في اتهامها بتشويه منظرها عبر عمليات التجميل، وحينما كرّرت الفنانة البحرينية هيفاء حسين الأمر ذاته وردت إليها تعليقات تقارن شكلها قبل وبعد مساحيق التجميل.
فنانو الجيل الجديد يتخلون عن أدوارهم السياسية، عكس الجيل القديم الذي كان يجمع التبرعات لصالح المجهود الحربي
ولا يمكن قصر المشكلة على كونها فنية فقط، فمن يمارسونه إلكترونيا يزاوله في العالم الحقيقي، لأسباب نفسية بالمقام الأول، فالمتنمّر تعرّض قطعا لعنف بدني ولفظي سابقا فيعيد تدويره إلكترونيا، ولشعور بالإهمال والتجاهل والضعف في المنزل، فيبحث عن طرق أخرى للحصول على القوة وممارسة السيطرة على الآخرين، وجذب الانتباه وربما الشهرة.
ووفقا لبيانات وحدة نجدة الطفل بمصر، التابعة للمجلس القومي للأمومة والطفولة، فإن 68 في المئة من الأطفال يتعرّضون إلى العنف البدني و22 في المئة يتعرّضون لعنف نفسي منزلي لأسباب تتعلق بأساليب التعامل أو الوعي بأساليب التنشئة أو خلل في العلاقات داخل الأسرة.
ويقول علماء النفس، إن المتنمّر كلمة مستقاة من النمر لتعطي معاني الاستقواء على الآخرين، ويحاول إخفاء ما بداخله من ضعف، وإيذاء الذين حوله بطرق مدروسة لا تعطيهم فرصة للرد، فيستخدم حسابا مزيفا، وحين يجد هجوما مضادا عليه يكون أول تصرفاته إغلاق الحساب الإلكتروني والهروب.
ولفت الدكتور جمال فرويز، استشاري الطبي النفسي بالقاهرة، إلى أن بعض المتنمّرين يعانون اضطرابا في الصحة العقلية وطريقة قاصرة في التفكير والشعور بالآخرين، وفقدان القدرة على ضبط المشاعر والسلوك، أو إقامة علاقات اجتماعية سوية، ولا يعتدون بمشاعر الآخرين ويوجهون اللوم الدائم لهم على ما يمرون به من مشكلات.
وذكر، لـ”العرب”، أن الظاهرة سببها الانحدار الثقافي، وتراجع دور الأسرة في التربية وتثقيف الصغار، وجو العنف الأسري في المنزل بالمشادات والمشاجرات بين الأبوين أمام الأطفال، أو وجود شخص داخلها يمارس تهديدا على الطفل فيمارسه على الآخرين حتى لو كان عبر الواقع الافتراضي وليس الحقيقي.
والتنمّر ظاهرة راسخة منذ القدم، لكن انتشار المصطلح هو الجديد، فأشعار الهجاء ضمت السخرية من العيوب الجسدية والعاهات البارزة، مثل قصر القامة أو العرج أو طول الأنف، والجديد تنامي الظاهرة بصورة فجة جاء مع تطوّر وسائل الاتصال، وتستهدف جميع الأعمار والطبقات، وربما كان نجوم الفن أكثر تعرضا للأذى بحكم أن الأضواء مسلطة عليهم بكثافة.