نظرية الثقافة، الأنظمة والتمثيل

من الصعب جدا أن نفهم كيف يشتغل النقد الثقافي والدراسات الثقافية والدراسات الأدبية والدراسات السياسية دون الإلمام بمفهوم وأنظمة ونظريات “التمثيل”. إنه من الضروري أن ندرك منذ البداية أن مفهوم التمثيل مشروط أيضا بإدراك كيف يولد المعنى وكيف تشتغل اللغة، ولا شك أننا نجد أنفسنا هنا أمام قضايا مهمة متشابكة ومعقدة فعلا وينبغي علينا أن ندرسها بهدوء وعناية وعمق معا.
يحتل مفهوم ” التمثيل ” Representation مكانة خاصة في مجالات مختلفة من الحياة البشرية وفي النقاش الفكري والثقافي والسياسي منذ أيام الفيلسوف أفلاطون مرورا بالفيلسوف الإنكليزي طوماس هوبس إلى عصرنا هذا، ويرى الدارسون أن معاني كثيرة قد أعطيت لهذا المفهوم وخاصة في النظرية السياسية الأوروبية والأمريكية. وبهذا الخصوص تلاحظ الدارسة ” حنه فينيشيل بيتيكن “ في كتابها الذي يحمل عنوان ” مفهوم التمثيل” أن هناك التمثيل الوصفي والتمثيل الرمزي وهناك مفهوم التمثيل الليبرالي والتمثيل السياسي وهلمَ جرا. نظريا لأهمية هذا المفهوم فإنه حريّ بنا أن نسرع الخطى ونقول بأن مفهوم التمثيل لا يتضمن فقط أبعادا معرفية مجردة كأن تمثل الدوال Signifiers عالم الطبيعة وأفعال الإنسان ذات المضمون الثقافي وكفى بل فإنها تتضمن أيضا بعدا سياسيا.
وفي هذا السياق بالذات نجد ستيوارت هول يعتقد جازما بأن الثقافة هي قضية سياسية دون ريب كما ينقل عنه الناقد الثقافي الأنجلوفوني جيمس بروكتر في كتابه الذي يحمل عنوان ” ستيوارت هول”. وبمعنى آخر فإن الثقافة عند ستيوارت هول حسب تأويل بروكتر “ليست ببساطة الشيء الذي تقدره أو تدرسه ، وإنما هي أيضا الموقع المحفوف بالمخاطر للفعل وللتدخل الاجتماعيين، حيث تكون علاقات القوة مؤسسة وغير مستقرة على نحو محتمل”. ما هو التمثيل إذن؟ ففي دراساته المعنونة “التمثيل: المعنى واللغة” يقول ستيوارت هول بأن “مفهوم التمثيل أصبح يحتل مكانا جديدا ومهما في دراسة الثقافة، فالتمثيل يربط المعنى واللغة بالثقافة”، وهنا نجده يتساءل عن السبب في ذلك وعن العلاقة بين الثقافة وبين هذا المفهوم ثمَ يجيب بأن ” التمثيل يعني استخدام اللغة لقول شيء ما له معنى عن العالم أو لتمثيل العالم للناس الآخرين على نحو له معنى”. هل هذا كل ما في الأمر؟ يتساءل ستيوارت هول، وعن ذلك يجيب مرة أخرى بنعم وبلا في آن واحد. إنه يمكن لنا توضيح المقاصد التي يتضمنها كل من “نعم” و “لا” في هذا السياق بعدد من الجمل التالية ووفقا لما يريده ستيوارت هول نفسه: فالتمثيل هو ” جزء أساسي من العملية التي بواسطتها يُنتج المعنى ويُتَبَادَلُ بين أعضاء ثقافة، وإنه يتطلب استخدام اللغة والعلامات والصور التي تقوم مقام تمثيل الأشياء”.
إن هذا التعريف لمفهوم التمثيل في رأي ستيوارت هول جزئي وغير كامل ولكي يستوفي شروط إشباع الإشباع أو يحقق الاكتمال فإنه ينبغي الإجابة عن هذا السؤال المطروح علينا بقوة وإلحاح وهو: ” كيف يربط مفهوم التمثيل المعنى واللغة بالثقافة؟”.
قبل أن ندرس الصيغ التي يقترحها ستيوارت هول للإجابة عن هذا السؤال الجوهري يليق بنا التذكير أن هذا المفكر ينطلق من فرضية أساسية وهي أن اللغة تبني المعنى، وأنها تعمل كنظام تمثيلي. فما هو المقصود بهذه العبارات؟ يلخص ستيوارت هول مقاصده قائلا بأننا نستعمل العلامات والرموز سواء كانت أصواتا، أو كلمات مكتوبة، أو صورا منتجة إلكترونيا، أو نوتات موسيقية، أو حتى أشياء لتدل أو لتمثل لأناس آخرين مفاهيمنا وأفكارنا ومشاعرنا. فاللغة، سواء كانت لغة مكتوبة أو شفوية، إلى جانب أشكال أخرى من اللغات وفقا لهذا التنظير، هي الوسائط التي من خلالها وبواسطتها يتم تمثيل الأفكار والمشاعر والمواقف والذكورة والأنوثة في “ثقافة” من الثقافات.
|
نظريات التمثيل
في البداية ينبغي علينا تقديم جملة من التعريفات لمفهوم “التمثيل” وللكيفية التي يعمل بها نظرا لأهميته المركزية في النقد الثقافي وفي فهم الثقافة وفي إدراك علاقات التواصل بين البشر في أي مجتمع. بهذا الخصوص أريد أن أقول مباشرة بأننا لا نستطيع أن نقدم أفكارنا دون اللغة والتمثيل، وهنا نتساءل: كيف يحصل التمثيل إذن؟ لكي نجيب عن هذا السؤال ينبغي علينا أن نستمع إلى المفكر ستيوارت هول الذي يقدم هذا المثال من أجل التوضيح: ” إذا قمت بوضع الكأس الذي تحمله بين يديك وخرجت من الغرفة فإنك تبقى قادرا على التفكير في ذلك الكأس رغم أنه لم يعد موجودا فيزيائيا هناك. وفي الواقع فإنك لا تقدر أن تفكر بالكأس وإنما تستطيع فقط أن تفكر بمفهوم الكأس. وكما يقول علماء اللسانيات فإن “الكلب ينبح” ولكن “مفهوم” الكلب لا يستطيع أن ينبح أو يعضّ”، ونستنتج مما تقدم أن الكلمة هي العلامة، وأن ” التمثيل هو نتاج المعنى والمفاهيم التي توجد في أذهاننا من خلال اللغة “، وبالإضافة إلى ذلك فإن الربط بين المفاهيم وبين اللغة هو الذي يمكَننا من الإشارة إما إلى عالم الأشياء الحقيقي، والناس، والأحداث أو إلى العالم المتخيل للموضوعات الخيالية والناس والأحداث”. بعد هذه التوضيحات التي يقدمها ستيوارت هول نعلم بأن هناك عمليتين ونظامين من التمثيل اللذين يمكّناننا من تأويل العالم وتنظيمه، فما هما تحديدا؟ يسمي ستيوارت هول النظام الأول بنظام التمثيل الذي يعني في نهاية المطاف ذلك النظام اللغوي الذي يجعلنا نربط ” جميع أنواع الأشياء والناس والحوادث بمجموعة من المفاهيم أو التمثيلات الذهنية التي نحملها في رؤوسنا” وإنه “دون هذه المفاهيم لا نقدر أن نؤول العالم “. وفي هذا السياق يؤكد ستيوارت هول بأن عمليات التواصل بين الناس تستدعي التشارك في ترتيب وتنظيم المفاهيم في إطار الثقافة المشتركة ودون ذلك فإن التواصل يبطل، كما يوضح بأن تنظيم العلامات في اللغة هو الذي ” يمكننا من ترجمة أفكارنا ( مفاهيمنا) إلى كلمات”.
أما النظام الثاني فيعتمد على ” بناء مجموعة من التماثلات (التطابقات) بين الخريطة المفهومية وبين مجموعة العاملات وترتيبها وتنظيمها في اللغات المتنوعة التي ترمز أو تمثل تلك المفاهيم. إن هذه العلاقة بين الأشياء والمفاهيم والعلامات تكمن في قلب إنتاج المعنى في اللغة. أما العملية التي تربط هذه العناصر الثلاثة فندعوها بالتمثيل”. ويخلص ستيوارت هول إلى القول بأن أبناء الثقافة المشتركة ينبغي أن يشتركوا أيضا في الخرائط المفهومية وأنظمة اللغة والشفرات “التي تتحكم في علاقة الترجمة بينهم”، ويضيف مبرزا أن ” الشفرات تثبّت العلاقة بين المفاهيم والعلامات”.