نصيرة محمدي: أحلم بالجزائر التي حلمت بها قصيدتي

تنتمي الشاعرة الجزائرية نصيرة محمدي إلى جيل عرف بجيل الهامش واليتم، برزت في ظرف استثنائي عاشته الجزائر، وحملت في نصوصه جينات مواجهة آلة الموت والإرهاب والقتل التي كانت تعصف بكل شيء، واجهت كل هذا بشعرها النابض بالحياة والحب والجمال. في هذا الحوار الخاص تتحدث الشاعرة نصيرة محمدي عن البدايات التي شكلت النضج والوعي والكتابة، وتبوح ببعض هموم وهواجس ونظرتها إلى الواقع والمستقبل في ظل ما تشهده الجزائر من حراك وثورة وآفاق جديدة. نصيرة محمدي اشتغلت في الصحافة والتعليم بالجامعة، وأسست مع مجموعة من الكتاب “رابطة كتاب الاختلاف” وترأستها خلال التسعينات، كما شاركت في مهرجانات وملتقيات وطنية ودولية، وقد أصدرت مجموعة مؤلفات منها: غجرية / كأس سوداء / روح النهرين / جسد الغياب / نسيان أبيض / سيرة كتابة / بجوارهم: حوارات، وترجمة بعض أشعارها إلى اللغة الفرنسية.
تعود الشاعرة الجزائرية نصيرة محمدي إلى سؤال البدايات في دروب الكتابة بالكثير من النوستالجيا، تقول “السؤال يجعلني ألتفت إلى تلك التجربة الإنسانية التي تقاطعت مع تجارب آخرين وإلى قراءة مسار معقد وملتبس مع الحياة والكتابة والأشياء. أشياء سقطت، وأخرى تغيرت، وما بقي هو الجوهر لا أعرف حجم الألم الذي رافق كل ذلك؛ ولكن بوعي مجروح نقطع تلك المسافات الغامضة والغريبة ونتعارك معها. ذلك الغموض ليس إلا نحن، وتلك الغرابة قدر الكائن المنذور للسؤال والقلق واللااطمئنان. لم أطمئن في حياتي إلى شيء.
لم يخلق الشاعر ليعرف السكينة واليقين هو متوثب ومشتعل وملتاع. تلك اللوعة التي تنتهي في كتابة تتجاذبها المخيلة والمعرفة والتجربة ولعنة أن تولد وتتخبط في كل منعطف، وجهة، ومنعرج، وزاوية باحثا عن مسارب جديدة، وأبواب، ومفاتيح لتتسلل روحك نحو النور. تلك الكثافة الإنسانية والجمالية التي تلتحم فيها بالكون”. “هذه هي اللحظة الأعمق في حياة الشاعر”، تقول الشاعرة نصيرة، فنحن “لا ننتبه إلى كلماتنا؛ الكلمات التي تحرق، والتي تسكر، والتي تضيء، والتي تقتل. لولاها لانتفى وجودنا وكان العدم. إننا نولد في كلماتنا ورؤاها الممزوجة بأجسادنا ونظراتنا ولمساتنا وأذواقنا وكل تلك الروائح والأصوات المنبثقة من جهات العالم”.
الموت والكتابة
“لطالما ارتبطت الكتابة بالموت أكثر من الحياة”.. فبالكتابة تقول الشاعرة نصيرة “نواجه موتنا في كل لحظة. ليس علينا أن نفهم ذلك، ولكن علينا أن نبدأ في كل مرة من جديد. نبدأ من موتاتنا الكثيرة في الحياة. الكتابة تهديد وخطر على الموت. هي عملية قتل لما يروعنا، ويلوعنا، ويحجب عنا الجمال والضوء. الشعر ربما هو ثمرة العزلة والصمت والهامش. لا ارتواء من نبعه، ولا امتلاء من روحه، ولا وصول أبدا. كيف أنظر إلى الشعر والذاكرة معا؟
كيف أرى الأشياء تلتحم بالأشياء؟ كيف أكتب الشساعة بأصابع مرتعشة؟ كيف أقرأ ما غاب وسقط مني، ما تراءى لي أنه النسيان. جزء مني هنا، وأجزاء أخرى لا أعرف أين مضت؟ أنا المتروكة، أو أنا التي جعلت الترك هبتها الأخيرة في الكون؟
هذا حس المتناقضات التي تتكثف في ذاتي. وهذا حدس الكائن الذي عليه أن يتخلص من الوثوقيات واليقينيات والجاهز. يدمر ربما ليبني ربما ليعبر عبوره الكبير. نحن نتعلق بالكلمات أم بظلالها؟ نحن نحدس الأشياء أم نهايتها؟ أنا في كل يوم امرأة أخرى. رائحة أخرى. صوت آخر، وحياة أخرى. كيف يكون الشعر معي بعد كل الذي قطعته وحيدة وعارية ويتيمة”.
هامش لأصوات اليتم
كتبت الشاعرة نصيرة محمدي مثلها مثل العديد من الأصوات الشعرية آنذاك على هامش زمن الرعب والموت الذي ضرب الجزائر وأعطى ولادة شعرية حارقة، تقول عنها “ولد شعرنا من الغياب ومن الهامش.. وشكل شعراء الهامش جوهر الشعرية الجزائرية”. هم، تضيف “أبناء الخوف والدم والنار التي خلفت كل هذا الرماد ضحايا ومعطوبين ومجانين ومنفيين وقتلى. كانت البطولة الكبرى أن تنجو وتبقى حيا. لا زلت لم أشف من تلك المرحلة القاسية من حياة الجزائر”.
وقد كانت “الكتابة عملية تطهير وعلاج للمآسي التي عشتها، لم تكن سوى محاولة للنهوض من جديد. الندوب باقية. الشروخ الكبيرة اتسعت. كان الشعر ملاذا. الشعر الذي تعثر عليه صباحا بعد ليلة دامية في ابتسامة طفل راكض نحو المدرسة. في خطوات امرأة واثقة رغم الموت. في عيون رجل يشد على روحك وأنت تتهاوى في المنحدرات. ظلت روح اليتم ملازمة لشعراء جيلي وظلوا مكسورين، نصوصهم مثلهم تشبه ضوء رجال مقتادين إلى مناف بعيدة”.
عن نظرة البعض إلى أهم مواضيع النصوص التي تكتبها وماذا يقولون فيها، تقول “وجهات القارئ مختلفة ولا وصي على القارئ. القراءة بعيون خاضعة لمعايير الجاهز والمنمط والآلي لن تحيل على جوهر النص، وجوهر الشعر. في اللغة مكابدة، وفي الكتابة كثافة التجربة ورؤية الأشياء والعالم بحرية. داخل الهامش تعاد قراءة ورؤية الشعر بمنظور مختلف. الشعر دائما في مكان آخر”. “وأنا أنزع إلى الحرية في كل ما أكتب. ما عدا ذلك هي أحكام حراس المعابد وعبيد المركز”.
مع تنوع ما تكتبه الشاعرة نصيرة لا تعرف مدى ما خلفه هذا التنوع عليها، تقول “ولا أعرف ماذا أضافه لي خلال ممارسة هذه الكتابة. كنت أنا في كل ما خطته يدي. كنت الأسر والتحرر. كنت البناء والهدم. كنت أرواح أصدقائي الكونيين من كتاب وفلاسفة وفنانين ورحالة. ومجانين وعشاق. كنت ما يبهج وما يقلق وما يسائل ويحرر وما يتألم وما ينكسر وما ينبعث في كل هذا”.
ظلت تيمة الموت ملازمة للكثير من النصوص الجزائرية بسبب عشرية الدم التي عرفتها الجزائر، وقد تجلت بوضوح عند الشاعرة نصيرة وهي ترجع ذلك إلى رغبة في “أن أكتب عن الموت.. عن الفقد المرعب الذي خلفه موت والدي، فقد كتبت قرابة الخمسين صفحة ولم أستطع العودة إليها أبدا.
لامست تيمة الموت في النصوص السردية الجزائرية وفق رؤية فلسفية وصوفية وانتهيت إلى ذات القلق الوجودي والتوتر الذي يرافق حالة الكتابة”. جيل كامل، تشرح بإيجاز “متخف وراء نصوص صادمة بالموت والدم والوحشية. ونصوص حارقة كانت شاهدة وشهيدة لزمن ما زال خزانا كبيرا للكتابة وإبداع حالة ليست جزائرية ولكنها حالة إنسانية عالية الجرح ودامية الأثر”.
إضافات تجربة الاختلاف
كان للشاعرة نصيرة محمدي أثر بالغ في مرافقة وترأس واحدة من أهم الجمعيات الثقافية وهي تجربة تكشف عن بعض خطوطها قائلة “كانت تجربة الاختلاف جزء من مساري الصعب والغني أيضا. في مشهد قاتم ومأساوي كنت في أتون النار بين عملي في الصحافة وانخراطي في جمعية ثقافية واجهت تحديات قاسية، وراهنت على الثقافة والكتاب كحل لأزماتنا الكثيرة ومحاولة مقاربة أسئلة جوهرية وملحة في حياتنا الجزائرية.
سؤال الثقافة والمرأة واللغة والديمقراطية والحريات في ظل هيمنة الديني والسياسي، وفي ظل ظروف اقتصادية قاهرة، وغلق لكل أوجه الحياة. كانت الجزائر معزولة عن العالم تواجه قدرها وحيدة وكان علينا أن نقاوم ونحيا. عشنا بالقليل وحلمنا كثيرا وكانت هذه التجربة اختبارا لقوتي وصلابتي”. “وقد أنجزنا القليل، ولكن كان ذلك استثناء وبطولة في صحراء قاحلة. كان الهم الثقافي هاجسا. وكانت التهديدات والاتهامات فوق طاقة التحمل. لكننا آمنا بفكرة نبيلة حققت ثمارها”.
“كنت أكثر تفاؤلا في مراحل سابقة لبناء ثقافة مغايرة ومختلفة تحتفي بالتعدد والحداثة والاختلاف والتنوير”.. تجيب عن سؤال حول واقع الثقافة في الجزائر؟ “بؤس النخب وغياب مشروع حقيقي، وهشاشة واقعنا تجعلني متعبة وعدمية في الكثير من الأحيان”.
الحراك الجزائري ثورة أخرى
تنظر الشاعرة نصيرة محمدي إلى الحراك الذي هب في ربوع الجزائر على أنه “ثورة الجزائر الثانية وهي هزة حقيقية في روحي التي حملت عبء بلد غني وخصب ويشكل قارة بخيراته، وشبابه، وثرواته”. “كنت من البداية مع هذه الثورة، واكبتها بعقلي وحضوري وانغماري في يوميات الحراك حالمة بدولة مدنية حديثة ومتطورة، ديمقراطية وحرة.
كان وعي الشباب سلاحا لاستكمال هذا المسار الخطير والموجع. قوة وعي ونضج رافقت المسيرات المتحضرة كل جمعة، ومحت من ذاكرتي الجمعات السوداء الحزينة في فترة التسعينات. آمنت بهذا الشعب من جديد وبروحه الثورية. وتزعجني نخبه الجبانة والمستلبة والانتهازية التي استفادت من كل المراحل”. “ومع ذلك سأظل أحلم بجزائر أخرى وبإمكانية انبعاث الحياة من جديد”.
في الأخير ترى الشاعرة نصيرة محمدي أن نص هذه الثورة لم “يكتب بعد.. إنها حالة تأمل، وقراءة جديدة لكل ما كتب وما سيكتب. عين الثورة ترى ما يتجاوز السطحي، والظاهر، والعابر”. “نحن نتوارى خلف النصوص. الغبار هو ما يبقى منا. خبراتنا ومعارفنا تترسخ في ما يمكن أن يتم بالقراءة والكتابة معا. هما السر والرؤية ليفيض الجمالي والإنساني بقوة الروح والحياة”.