محمد مزيان.. الوزير الباحث عن إبرة الإعلام في كومة قش

إن أراد القفز بالإعلام من حالته الواهنة عليه أن يصغي إلى العمق.
الأحد 2025/04/13
تربع على عرش الإعلام

الوزير الحالي للإعلام الجزائري محمد مزيان من القلائل في منظومة الحكم الذين جمعوا بين الأدب والتاريخ والاقتصاد والصحافة على ما تظهره السيرة الذاتية المنشورة في موقع وزارة الاتصال.

هذه السيرة قادته إلى العمل الدبلوماسي إطارا في وزارة الخارجية ثم وزيرا مستشارا في بعض عواصم العالم وسفيرا في بعض الدول الأفريقية، وهو ما جعل الرئيس عبدالمجيد تبون يختاره في المدة الأخيرة ليجول في بعض العواصم حاملا الرسائل إلى القادة الأفارقة، ولم ينزل من الطائرة إلا وكما قيل، في جعبته بعض من انتصارات تأتت من سمعته الطيبة التي تركها خلفه لمّا عمل سفيرا.

ترقب العديد من الملاحظين بعد الفوز المعقد لتبون بالعهدة الثانية تركيبة حكومته وكانت أعينهم على الكثير من الوزارات التي تحوز على الاهتمام والأولوية ومن بينها الإعلام.

تنبأ المتفائلون على استحياء ببقاء محمد لعقاب في منصبه، أبرز المقربين من تبون، فلا يمكن له أن يفرّط فيه أو أن يقيله، إلا أن الحروب في الهوامش وفي الكواليس التي شنت ضده، واندفاعه، وثقته الزائدة في المحيط المعادي أصلا لكل ما هو في مصلحة البلاد، كلها عناصر لم تشفع له، فتمت الإطاحة به في فصل درامي من مسرحية باتت مكشوفة، وستظل مخزية من حيث الطريقة التي أديرت بها حبكة الصراع.

تعيينات مضطربة

~الوزير بعد أن أدرك وعورة الواقع المضطرب لقطاع الإعلام، أدرك أن العواصف التي تهب في محيطه أقوى من أي إرادة للتغيير

انتظر معشر الإعلاميين سعيد الحظ الذي سيتربع على عرش الإعلام، وجيء بمحمد مزيان من حيث لا أحد كان يتوقع، وبمجرد الإعلان عنه، تكاثر هؤلاء وتزاحموا عند بوابات المواقع والمنصات والهواتف لمعرفة من يكون هذا، قاموا بمحاولات حثيثة للعثور على صورته، غير أن البحث منحهم العديد من الوجوه التي تحمل نفس الاسم واللقب.

كلما أعلن عن تعديل وزاري في الجزائر، تبدأ التكهنات والتخمينات والتسريبات والتوقعات، تترنح النفوس بين حيرتين، حيرة دافئة وحيرة مفاجأة.. حيرة دافئة للذين هم الأقرب من أصحاب القرار وعندهم علم من كتاب الاختيار، وحيرة لمن هم بعيدون عن المعين، ولكنهم متأكدون أنه هو. وبالتالي تجدهم على أهبة استعداد للتهاني والتبريكات، مفعمين بأحلام اليقظة في رؤية أنفسهم بجنب وزير صديق وخلّ، يسلي همومهم ويقضي على مشاكلهم ونكباتهم، ويريح متاعبهم ولو لفترة قصيرة وهو على الكرسي الوثير.

منذ اعتلائه كرسي الرئاسة لعهدتين، ظلت قصة التعيينات في المناصب العليا في الدولة التي باشرها الرئيس تبون محفوفة بالكثير من التشويق والمفاجآت، انتهى كثيرها إلى خيبات، وظلت الأسئلة تدور في حلقات لولبية لا تتوقف عن الخلفيات التي ارتكز عليها في اصطفاء رجاله؟ وكيف وضعهم في مناصب نفوذ في كل مكان؟ وهل اعتمد على مقاييس دقيقة كي يكون هؤلاء أفضل وأهم من آخرين؟ وكيف تعامل هؤلاء مع الثقة التي منحها لهم؟

فما الذي يتميز به مثلا مستشاره الأقوى ومدير ديوانه بوعلام بوعلام كي تنسب إليه قوى خارقة، والذي يقال إن كل شيء في مفاصل الدولة يمر على يديه حتما مهما كانت قيمته؟ وما الصفة الخارقة التي تزدهر في الشخصية الأكثر جدلية وإشكالية المترددة على كل لسان خاصة في الأوساط الإعلامية كمال سيدي السعيد؟ ولماذا يلف الغموض والسرية إنهاء مهام بعض كبار المسؤولين الذين جاء بهم ووضع ثقته فيهم، ثم بين عشية وضحاها أقالهم حتى دون أن نعرف شكلهم وفصلهم ولون عيونهم، وأسباب قدومهم ومغادرتهم؟

~مزيان يدرك جيدا أن الإعلام متداع وهش، وهو مزيج من الرداءة والسطحية والركاكة، وغير مؤثر حتى في القائمين عليه

لا تمتد هذا الأسئلة، التي تبقى عالقة على كل حال ودون جواب مقنع، ولا تختص فقط بفترة تبون بل ترجع إلى نشأة الدولة الجزائرية، حيث خضعت الكثير من التعيينات إلى منطق أقرب إلى مفهوم العائلة أكثر منه إلى مقاييس عالية في الاختيار، وكرست في مجملها عقلية الجهوية، والمحسوبية، والانحياز لابن المنطقة.

المحاباة، والصحبة، والولاء والطاعة، وهي خلفيات بقدر ما كانت مبرّرة عند أصحابها إلا أنها أثبتت أنها معطوبة وعليلة، وبغيضة وتحدث صدمة، وإلا كيف نفسر الفشل الكارثي للكثيرين في مناصبهم بل وفسادهم ثم يعاد تدويرهم ورسكلتهم وكأن شيئا لم يكن، ونكتفي بمثال واحد كنا أشرنا إليه في مقال سابق حيث فشلت شخصية محسوبة على السينما، فشلا ذريعا في مهامها وعوض محاسبتها، بعثت إلى منصب مهم ويسيل اللعاب حيث يتعلق بإنجاز أحد أكبر مشاريع الرئيس تبون، وعندما تقصينا الأمر وقعنا على معلومة تقول إنه ليس فقط صديقا لشخصية نافذة في السلطة من حيث الجهة بل تجمعهما علاقة مصاهرة.

عيون الدبلوماسي

لأول وهلة ومنذ تعيين محمد مزيان تفاءلت القلة القليلة بهذا الاختيار، وقرأوا الخطوة على أنها خطوة استدراكية لإسقاط الحجج الواهية التي يقال إن على أساسها تمنح امتيازات الوظائف والمناصب العليا في الدولة للمحظوظين “أصحاب الزهر” (الحظ) المزهر، وهي من باب أولى لمن يستحقها بعرق الكفاءة والجدارة، كلفه به بعيدا عن السياسة المنتهجة في اختيار الشخصيات.

لم نتلمس بعد نتائج ما قام به إلى حد الساعة، رغم أن مشاكل القطاع مستوية، ومعلومة ولا حصر لها.. فهل هو مكبل؟ هل هو حر؟ هل وضعت له حواجز وقيود ومطبات، وخطوط حمراء كما تلوح دوما في الأدبيات؟

هل وقف على حقيقة أن الإعلام الرسمي منه على الأقل، لا يمكنه أن يسير برأسين متنافرين في الجوهر والشكل، لذا آثر مرغما على مسايرة الظلال التي تسير حوله وفي كل خطوة، حتى لا يقع في فخاخ الخصومات التي تأسست وتجذرت، وأصبحت ديدن من بيدهم ملكوت القوة العدالة والمال، واقتنع في قرارة نفسه أن المهمة شائكة، خاصة وأن الكثير من صلاحيات الوزارة متقلصة، والحيز الضيق الذي يتحرك فيه يكاد يكون منعدما، فلا هو مسؤول يضرب بقوة وفاعلية، ولا هم منحوه القدرة على التحكم في قطاعات هي من صميم مسؤولياته بعد أن ضمتها الرئاسة إلى مديرية الاتصال ضما، وهي اليوم تتصرف فيها وفق مخطط لم يؤت إلى حد الآن ثماره فلا هي – أي المديرية – بعثت الإعلام من سباته، ولا خلقت منه قوة وتأثيرا واسعا يهاب جانبها الأصدقاء قبل الخصوم.

في ظني أن الوزير بعد أن أدرك وعورة هذا الواقع المضطرب، وهو الشخصية القوية حتى في بنية جسده، أدرك أن العواصف التي تهب في محيطه أقوى من أيّ إرادة، ولنقل إرادة التغيير “على سبيل الحلم”، ليس لأنه غير قادر عليها، أو أنه لا يملك الأدوات والإمكانيات والرؤية والطموح، بل لأنها – أي العواصف – مخفية، وقد تعصف من حيث لا أحد يدري، تنسج خيوطها في حلقة ضيقة لها من النفوذ المتعاظم، على ما يبث هؤلاء في الأوساط، عند صاحب القرار الأول والأخير ما يردع ويثني، لذلك لم يواجهه، وأقل ما ينتظره العودة إلى فضاء الترحال سفيرا في إحدى عواصم العالم.

ليس من اليسير فهم ما يحدث في المشهد الإعلامي الحالي، من انهيارات متتالية وأزمات على كل الأصعدة، حيث تراجع لمعانه، ولا أحد يرغب في أن يلقى به من جديد في وغى التميز والاختلاف والابتكار.. وحتى أن يحضر بهيا ولافتا في العالم، كما تمنى الوزير في بداية خرجاته التي كانت هادئة ومستكشفة لشأنه العام، يرافقه دوما كالظل المستشار الرئاسي سيدي سعيد.

ثم تحولت تصريحاته إلى ثورة حثّ من خلالها على مواجهة “المؤامرات”، الصيغة المحببة لرجال النظام وتوابعه حين يريدون تحفيز الهمم، وتبنّيها كمخارج تجذب إليها المخاوف أكثر منها التصديات، فبدل أن ينتفض الخلق ويثور، يستكين ويهدأ ويغلق على نفسه الأبواب والنوافذ.

حكاية الـ9 آلاف صحافي

◄ لا يمكن التغاضي عن السردية الحالية التي تعترف بأن الإعلام متقهقر
لا يمكن التغاضي عن السردية الحالية التي تعترف بأن الإعلام متقهقر

أشار الوزير في فورة غاضبة إلى وجود أكثر من 9000 صحافي يشنون هجمات على الجزائر، وهو التصريح الذي قلب المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي وأثار الجدل بين متعجب ومستغرب، ليس السبب فقط هو أن هذا الرقم، وفقا لتأكيده، صحيح، وهو رقم متفق عليه حسب العديد من المتابعين، ولكن المشكلة لا تتعلق بالتوصيف القائم على معطيات قد تكون بحوزة مصالح الوزير وحتى لدى الأجهزة الأمنية، بل يمكن أن يكون العدد أكبر بكثير إذا أضفنا إليه الذباب الإلكتروني والصفحات والحسابات والمواقع و غيرها، لتبقى المعضلة الحقيقية في ما جهزته الجزائر من ترسانة وقوى وإعلام ومجتمع ونخب ومثقفين وسياسيين، لمواجهة هذه “المؤامرات”، والتي ليست حكرا على الجزائر وحدها، فنحن لسنا الوحيدين في العالم الذين نعاني ونمر بأزمات ومحسودين أيضا.

لا أعتقد أن الوزير يجهل هذا الأمر، بل يدرك جيدا أن الإعلام متداع وهش، وهو مزيج من الرداءة والسطحية والركاكة، غير مؤثر حتى في القائمين عليه، حتى القناة التي توصف بأنها “دولية” لن تعثر بداخل علبتها على أيّ حوار جاد مع رئيس دولة، رغم الزيارات المتكررة للعديد منهم خلال المناسبات الكبرى التي أقيمت في الجزائر، ناهيك عن الفقر المدقع المنتشر في العديد من المواقع والقنوات، فيما يتعلق بالروبورتاجات الكبرى، المقالات القوية، التحاليل، وغيرها من الأنواع الصحفية، التي من المفترض أن يزخر بها.

~ليس من اليسير فهم ما يحدث في المشهد الإعلامي الحالي، من انهيارات متتالية وأزمات على كل الأصعدة، حيث تراجع لمعانه، ولا أحد يرغب في أن يلقى به من جديد في وغى التميز والاختلاف والابتكار

يعزى كل ما سبق حسب الملاحظين، إلى أن الإعلام مرتهن في أيد مسيطرة سيطرة مطلقة وقوية عليه، تلعب لوحدها كي لا ينهض من كبوته، وظل وسيظل الخوف على مكانتهم هو المحرك والبوصلة التي تحركهم، لم يُـترك لأيّ وزير مجال ليبصم بصمة لائقة بمقامه، بل سعت هذه الجهات بمجرد رؤيته يسعى لتصحيح الوضع، بتحضير “المقالب” لابتلاعه عند كل زاوية، وفبركة أقاويل، وافتعال شائعات ومنكرات، وللأسف شارك في ذلك بعض الإعلاميين، كما حدث مع الوزير السابق حيث تمّ تسجيله خلسة في جلسة عمل مع بعض مدراء الإعلام العمومي وهم في الأصل أصدقاؤه، وجه خلالها انتقادات “أخوية” خارج سياق الجلسة لطريقة معالجة الدولة لبعض القضايا، وتمّ نقل التسجيل على جناح السرعة إلى جهات عليا، انتهت إلى سحب كل صلاحياته، ثم عزله، ثم إقالته، ناهيك عن أمور أخرى خسيسة لا تشرّف الإعلام.

في هذا الحقل الملغّم يشتغل الوزير اليوم، ويتعاطى مع أمور تبدو واهية وسخيفة وتافهة.

لا يخفى على أحد، بل قد يكون الكل على دراية تامة، بمن فيهم الوزير محمد مزيان نفسه، أنه لا يمكن التغاضي عن السردية الحالية القائلة بأن الإعلام متقهقر، وموظف بطريقة بائسة في الرد على كبريات التحديات المرتبطة بأجهزة ولوبيات وأموال تصرف، فضلا عن جيش منتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، الكثير منه مولد من الذكاء الاصطناعي وغيرها من التطبيقات والتقنيات التي نجهل الكثير منها.

إن تجاوز هذه السردية يتطلب التوقف بحزم عن خلق الفتن، واللعب خلف الكواليس، والعمل تحت وطأة الترغيب والترهيب باستخدام ورقة الإشهار، كما يجب التخلص من ممارسة الحقارة والإقصاء مع خيرة الأقلام التي صنعت فخر الصحافة الجزائرية، والتحرر من الكمون والقابض على الرقبة.

ما يمكن أن يفعله الوزير إن أراد القفز بالإعلام من حالته الراهنة الواهنة، هو أن يصغي إلى العمق بدل السطح الطاغي على العلو والرفعة، عليه أن يبدل الواجهة وينظف الاتجاه، ويبدد الأوهام التي تعشش في الرأس الأولى التي أثقلت الجسد، في أن يرسم ورقة طريق مفعمة بالخيال والتميز، أن يستدعي روح الدبلوماسية في تعاطيه مع إعلام لم يعد قاب قوسين من المعين الخلاّق.

على الوزير أن يحفر لينحرف إلى الطريق المستقيم تلك التي يظهر ضوؤها في آخر النفق، لعله سينتصر، أليس الشعار الكبير الموسوم به اليوم كل شيء وموقف وفعل هو: الجزائر المنتصرة.

◄ كيف يقنع الوزير الصحافيين بقصة التسعة آلاف صحافي معاد
كيف يقنع الوزير الصحافيين بقصة التسعة آلاف صحافي معاد

 

7