نزهات مشرقية تُمعن في فردوس المساحات المفتوحة

تتتبّع الفنانة اللبنانية فاطمة الحاج الضوء وتعشق الألوان، فتقتبس من الحدائق الخالدة في ذاكرتها لوحات تشكيلية تحمل من يشاهدها إلى “نزهات مشرقية” تزيّنها منمنمات فارسية وتستحضر من خلالها بوابات نحو حدائق تاريخية تحضر فيها الآلهة الفينيقية.
نظمت صالة مارك هاشم في فرعها الباريسي معرضا تشكيليا للفنانة اللبنانية فاطمة الحاج تحت عنوان “نزهات مشرقية” ضم لوحات بأحجام مختلفة مشغولة بالألوان الزيتية والأكريليك. وشكل المعرض بمجمله رحلة بصرية جديدة في عالم الحدائق الداخلية لفنانة لم تغادر الحدائق عالمها مهما تعددت مشاهدها وإحالاتها الشعرية.
وقدمت صالة مارك هاشم معرض الفنانة بهذه الكلمات “فاطمة الحاج، تلميذة الفنان التشكيلي اللبناني شفيق عبود، الفنان التجريدي الشغوف بالألوان الذي طالما اُعجبت به الفنانة”.
وتتابع أن المعرض “تأكيد جديد على عشق الفنانة لعوالم ماتيس وبونارد وفوييارد الفنية. هؤلاء انتموا إلى المدرسة الانطباعية بشكل لا لبس فيه وتركوا أثرا كبيرا جدا في تكوين عالم فاطمة الحاج وكيفية نظرتها إلى الطبيعة”.
ويضيف البيان الصحافي للمعرض أن عالم الفنانة ُمستقى من حدائق سبق أن زارتها تكرارا في مدن عديدة من لبنان وفرنسا والمغرب واليمن.
غير أن هذه الذاكرة المتوهجة التي مدّت الفنانة بكل المشاهد التي رسمتها في مسيرتها الفنية وصولا إلى معرضها الجديد هذا لم تلتقط ما اختبرته كما هو تماما، ولكن صهرته بمشاعر وأفكار جاعلة منه نصا بصريا فريدا لا ينتمي إلا إليها، ولا يسرد إلا قصصا مأهولة بمخلوقات وكائنات حية كالقطط والفراشات، إضافة إلى الإنسان الحاضر في الكثير من لوحاتها السابقة والجديدة كجزء لا يتجزأ من المشهد العام وكمنغمس كليّ بطقوس التحولات اللونية والشكلية على إيقاع الفصول الأربعة بكل ما تحمل من تبدلات وانقشاع لوني متباين التدرجات.
كما حلّ الليل في لوحاتها ملونا وغامضا ويضج بأضواء خافتة لم يعرفها “النهار” في لوحاتها.
وإن كان زائر المعرض توقع رؤية أعمال جديدة مغايرة لذلك التوجه الفني الذي حفر بعيداً في نفس الفنانة حتى صار جزءاً منها فهو مُخطئ. فقد عثر من جديد على هذا الولع المُتجدد دوماً باللون، والانشغال بالضوء ليس كمادة تستخدم لتظهير الأشكال والشخوص الموجودة في لوحتها، بل كعنصر أوكلت إليه مهمة إقامة الحدود بين أجزاء اللوحة، شاحناً إياها بغنائية تعبيرية برعت الفنانة في جعلها نسيجا واحدا يستحيل تفكيكه دون أن يحدث خلل ما في تصميم بنيان اللوحة.
ولعلّ الفنانة فاطمة الحاج، بمسيرتها الفنية الطويلة، من أهم الفنانين الذين أكدوا للمُشاهد أن كل فنان له مفتاح واحد كفيل بتشريع كل الأبواب المُطلة على كل ما قدمه يوما. ومفتاح أعمال فاطمة الحاج هو، ودون منازع، الطبيعة بمختلف نباتاتها المتداخلة التي غالبا ما ظهرت كنسيج واحد يتدفق في اللوحات، مما أحال أعمالها في مرات عديدة إلى الانطباعية التجريدية التي لم تخل من ومضات تشكيلية محددة ظهرت من خلالها المخلوقات والأشياء.
أما الجديد الطارئ في لوحات الفنانة فمردّه ما عاشته الفنانة خلال فترة الحجر الصحي من ناحية وما شعرت به إزاء الكوارث الأمنية والمعيشية التي مرت ولا تزال تمر على لبنان، ونذكر بالأخص جريمة انفجار مرفأ بيروت.
وقد قالت الفنانة حول ذلك “علمت بخبر الانفجار عندما كنت محجورة في باريس. شكلت هذه الجريمة المروعة في نفسي أثرا رهيبا وشرعت في تصميم كتاب يضم 30 لوحة مرفقة بنصوص شعرية عن لبنان لشعراء لبنانيين. وهكذا ولدت فكرة ‘عشتار’ خاصة بعد إحساسي بقلق داهم وخوف من اندلاع حرب أهلية جديدة في لبنان”.
زائر المعرض يعثر من جديد على الانشغال بالضوء كعنصر أوكلت إليه مهمة إقامة الحدود بين أجزاء اللوحة
وعشتار الآلهة الفينيقية، كما تقول الأسطورة، قررت بعد موت زوجها أن تبني حضارة جديدة وهي “قرطاج”، بدلا من أن تدمر المدينة التي كانت موجودة آنذاك.
ويمكن أن نعتبر كلام الفنانة تأكيدا على ما وجده المُشاهد في لوحاتها: عالم آخر دخلت إليه الفنانة لتحتفي به، وذلك من داخل بوابات حدائقها السابقة.
وتذكّر فاطمة الحاج الناظر إلى لوحاتها الجديدة بالقصص الخرافية التي يسير فيها البطل في مكان ما اعتاد عليه ليعثر على باب يفضي إلى عالم آخر يشبه الأول، ولكن أغنى لناحية الزخم الخيالي والشعري الحاضر فيه.
وتقول الفنانة حول تحولها إلى عالم مختلف، ولكن شبيه بما رسمته سابقا، “تعمّقت في عالم أسطورة قدموس الذي انطلق بحثا عن أخته عشتار. ووجدت نفسي أنغمس في عالم الشاعر الفارسي ‘نظامي غنجوي’ والرحلة حول العالم التي أسفرت عن ابتكار جنائن ملونة تمثل كل واحدة منها بلدا مختلفا عن الآخر”.
ويظهر تأثر الفنانة بقصائد الشاعر الفارسي في المشاهد التي تذكّر بالمنمنمات الفارسية وبالأخص تلك التابعة لمدرستين هما مدرسة “شيراز” ومدرسة “تبريز”، سواء من ناحية الألوان -لاسيما اللون الوردي- أو من ناحية تدفق اللون وكأنه نهر إلى قلب اللوحة أو من ناحية اهتمام الفنانة برسم الشخوص والكائنات في لوحاتها متفاعلين مع محيطهم وعلى اتصال وثيق به، مما يحوّل بعض الأعمال التي قدمتها فاطمة الحاج إلى قصص قصيرة من كتاب واحد.
ولا ننسى في هذا السياق أن من أهم خصائص المنمنمات الفارسية أنها كانت ترافق نصوصا مكتوبة كما تفعل اليوم الرسوم التوضيحية التي هي على درجة عالية من الفنية. وهكذا تتالت اللوحات في معرض الفنانة اللبنانية الجديد فصولا من كتاب واحد عن لبنان جديد يعيد تشكيل ذاته من وحي الأساطير المُحببة.
يُذكر أن الفنانة فاطمة الحاج ولدت عام 1953 في الوردانية – الشوف. وبدأت دراسة الرسم في كلية الفنون الجميلة ببيروت، ثم أكملتها في لينينغراد وحازت عام 1985 على جائزة بيكاسو بمدريد وكانت قد انتقلت إلى باريس.
وبدأت الفنانة التشكيلية بالمشاركة في العروض الفنية سنة 1986 لتستمر في المشاركة بمعارض داخل لبنان وخارجه وتقديم معارض فردية عديدة في دول مختلفة نذكر منها إضافة إلى لبنان: قطر والمغرب وسوريا والكويت والبحرين والولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا.