نحو مدينة عالمية واحدة

لسان النظام العالمي الجديد يقول: نحو مدينة عالمية واحدة. هكذا يبدو الأمر، فهل تصل البشرية قريبا إلى هذا المفهوم بشكل علني وواضح؟
في عصر تتحكم فيه قوى كبرى بخيوط النظام العالمي الجديد، يبدو أننا أمام نسخة حديثة من روما القديمة، ولكن بحدود جغرافية غير مرئية ونطاق سيطرة أوسع بكثير.
هذا النظام الجديد يمتلك القدرة على فرض الضرائب واستغلال الموارد البشرية والمادية بذكاء، حيث تدور مصالحه حول نخبة من الشركات الكبرى ورجال الأعمال وأصحاب الأموال والسلطة. هم من يتحكمون في شبكات المصالح العالمية، ويضمنون أن تعود كل الفوائد لهم وحدهم.
بين حروبها الاقتصادية وصناعتها للحروب السياسية، تتجلى المعادلة بوضوح. كل دمار يُفتعل في الدول يفتح بابا جديدا لشركات النظام الجديد. شركات الأسلحة تبيع أدوات الدمار بمليارات الدولارات لتشعل الحروب، ثم تأتي شركات المقاولات لتعيد البناء على الأنقاض، فتُدار صفقات تُثير الريبة، لاسيما أنها تتم على حساب سيادة الدول وحياة الأفراد. الشعوب تتحمل فاتورة هذه الحروب مرتين: مرة في تدمير بلدانها ومرة أخرى في ديون إعادة الإعمار التي تثقل كاهلها لعقود.
من المهم إعادة بناء النظام العالمي بناء على قيم حقيقية من العدالة والحرية، بعيدا عن الأنظمة الاستبدادية والتجارية التي تقود اليوم حروبا وصراعات ذات طابع عالمي
وعلى الجانب الآخر، بين شركات الغذاء التي تُنتج منتجات تبدو آمنة لكنها تحمل في طياتها الأمراض، وشركات الدواء التي تبيع لكل داء دواء ومسكنا، يظهر تحالف غير معلن. شركات الغذاء، التي تطاردها الفضائح والملاحقات القضائية، تُسهم في انتشار الأمراض المزمنة بسبب مكوناتها المصنعة، في حين أن شركات الأدوية تقدم حلولا جزئية أو مؤقتة، تُبقي المرضى معتمدين عليها لفترات طويلة. إنها دائرة مغلقة، حيث يصبح غذاء اليوم سببا للدواء غدا، ما يضمن أرباحا مستمرة لهذه الشركات. الشعوب، في هذا السياق، تصبح مجرد أدوات تُستخدم لزيادة الأرباح، حيث يتم التحكم بحياتها من خلال حاجاتها الأساسية.
هذا النظام، مثل روما القديمة، لا يسعى فقط إلى الهيمنة الاقتصادية، بل يُعيد تشكيل الهويات والقيم الثقافية بما يخدم مصالحه. الإعلام والفنون وحتى العلوم مُهيمن عليها من جهات محددة وتُستخدم كأدوات لبناء روايات محددة تُرسخ هذا النظام، وبناء وعي جمعي محدد. فتُلغى الاختلافات الثقافية، وتُختزل الخصوصيات في قالب واحد يخدم منظومة النخبة. كل قرار عالمي، سواء في الغذاء، الصحة، الحروب، أو حتى الفنون، يتم توجيهه نحو تحقيق المزيد من الهيمنة والسيطرة.
وربما كان الاختبار الأعظم، عام 2020، خلال أزمة كورونا، حين كانت هناك قدرة لجهة واحدة على إصدار التعليمات لجميع أنحاء العالم وفرض قوانين وقيود على الدول كافة، بإغلاق العالم، وحبسه في منزله. كان الامتحان الأكبر حينها بإيجاد تنسيق بين جهات عالمية مختلفة بشكل سلس وواضح، في محاولة إيجاد حوكمة واحدة، كلمة واحدة، فرض تعليمات صحية، لوجستية، أمنية، موحدة من شرق العالم إلى غربه.
فكرة “مدينة عالمية واحدة” تشير إلى تطلع بعض القوى العالمية إلى تعزيز التنسيق والسيطرة على المستوى العالمي، عبر آليات جديدة تتيح القدرة على اتخاذ قرارات موحدة تتجاوز الحدود التقليدية للدول. ما يعكس تصاعد نفوذ بعض القوى الكبرى وقدرتها على فرض سياساتها في جميع أنحاء العالم، وهو ما قد يؤدي إلى تغييرات جذرية في هيكل العلاقات الدولية. في هذا السياق، تصبح السياسات العالمية أكثر تأثيرا، وتتجاوز القرارات الوطنية في الكثير من الأحيان.
كانت البداية كورونا، ثم أضحت اللعبة أكبر وأخطر حين تجلت بتقسيم دول الشرق الأوسط مؤخرا، والعبث خرابا في حاضر ومستقبل الأجيال. جميعها تأتي في إطار محاولات الدول العميقة والجهات المتصدرة للمشهد رسم الواقع بريشة جديدة. حيث يتم إسقاط سلطات وفرض سلطات أخرى في دول أطراف ثالثة وبناء عليه يتم تقسيم الغنائم بين القوى العظمى.
حتى الحرب الروسية – الأوكرانية كانت مثالا واضحا على فخ أعدته القوى العظمى في محاولة لتغيير معادلات النظام العالمي، بما يخدم مصالح النخبة، وصراع البقاء والسلطات بينهم مستمر. فالأمر أكبر من صراع بين تحرير كييف من الهيمنة الروسية مقابل المحاولات الروسية المميتة لبقاء أوكرانيا الحديقة الخلفية لها. إن الأمر بتداعياته وصل إلى فاتورة المواطن في أقاصي العالم، ليدفع المواطن ثمن هذه الحرب المتمثلة في تضخم الأسعار وارتفاع أسعار الشحن من جيبه الخاص.
ثم، مع عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم، يتم الحديث عن تحويل دول إلى دويلات، كمقترحه مثلا ضم كندا إلى الولايات المتحدة، فيبدو حينها كل شيء في هذا الكوكب مباحا. فمع سقوط النظام الديمقراطي وأدواته في العالم، وصعود النظام الترامبي الجديد المدعوم من أعظم إمبراطوريتين في منصات وسائل التواصل الاجتماعي، إكس وفيسبوك، وبالتعاضد مع دوله العميقة والواضحة، هناك مسرحية لفرض واقع عالمي سياسي اقتصادي اجتماعي جديد. والأيام القادمة ربما توضح لنا المشهد بشكل أوضح.
الحرب الروسية – الأوكرانية كانت مثالا واضحا على فخ أعدته القوى العظمى في محاولة لتغيير معادلات النظام العالمي، بما يخدم مصالح النخبة، وصراع البقاء والسلطات بينهم مستمر
فهل نرى أن هذه التوجهات في بناء النظام العالمي الجديد تمثل تهديدا أو فرصة؟
قد تكون هناك إيجابيات متمثلة في تطورات ويسر وسهولة في حياة بعض الشعوب والأفراد الذين يتمكنون من الاستفادة من التطور في قطاع الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا والتقنيات. هذا السوق المفتوح الذي يسمح للجميع باقتناص فرص ومحاولة إيجاد طرق للحياة، للتطور ولتعظيم الثروات بطرق غير تقليدية، هذا السوق الممتلئ بالطرق المختصرة للوصول، لكن هل هي نزيهة؟ وهل تحافظ على استقامة الإنسان؟
لا أعتقد أن منافعه تبرر الضرر الذي أحدثه في ثقافة وأخلاقيات وقيم المجتمعات البشرية. فربما تعتبر هذه المصفوفة الجديدة المتشابكة تهديدا للتنوع الثقافي وخصوصية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، لأنه لا يتم استخدام هذا التعاضد والتعاون بين القوى للمصلحة العليا والمصلحة العامة للشعوب، إنما لتعزيز نظام عالمي يعمل على خدمة فئة نخبوية تهيمن على مصادر ومراكز القوى في هذا العالم، تملك مليارات بل أكثر، تملك من التكنولوجيا والمعرفة ما يجعلها أكبر.
لكن هل يمكن مقاومة هذا النظام؟ قد يبدو الأمر صعبا في ظل التداخل العميق بين المصالح الاقتصادية والسياسية والثقافية. لا يمكن إنكار الأثر الكبير للنظام العالمي الجديد على الإنسان والإنسانية. لأنه يبدو أن معظم الأفراد وقعوا في المصيدة. ويبدو أن العالم اليوم يهرول في دوامة الرأسمالية، والأغلب، من الحاكم للمحكوم يتبنون الميكيافيلية في معاملاتهم، وأن الغاية بتحقيق مصالح الشركات والأفراد وتضخيم ثروات جهات محددة أهم من الأخلاقيات والأساليب والقيم والعدالة والنزاهة والإنسانية.
لذا، ينجو من ينجو من هذه المقصلة، بضربة حظ، أو ربما بطرق مختصرة، والبقية يغدون مجرد ضحية. والشعوب هي الطرف الخاسر في هذا الصراع، والحكومات الضعيفة مجرد ضحية تقلبات الأسواق والصراعات الجيوسياسية.. إذا ما الحل؟
من المهم إعادة بناء النظام العالمي بناء على قيم حقيقية من العدالة والحرية، بعيدا عن الأنظمة الاستبدادية والتجارية التي تقود اليوم حروبا وصراعات ذات طابع عالمي. العالم بحاجة إلى الانتقال من المنظومات القديمة التي بنيت على القمع والفساد إلى نظام عالمي جديد يعتمد على الفكر الحضاري والتطور البشري الحقيقي. أن ينهار القيصر ونبدأ باحترام الوعي الجماعي للإنسان، أن نستثمر في عقول الأفراد، لتحرير البشرية من القيد الذي فرضه نظام عالمي جديد بصبغة ميكيافيلية استبدادية. وفي خضم هذه التحديات، يبدو أن التغيير هو عملية طويلة، لكنه حتمي وضروري.