نجلاء علام: الإبداع النسائي لا يقتصر على تحطيم المحرمات

أدب "البيست سيلرز" استعراضي سطحي يخاطب فئات عمرية معينة والرواية المعاصرة تشهد انفتاحات جديدة على فضاءات النشر الإلكتروني.
الجمعة 2019/10/25
المرايا المزدوجة صاحبتني في كل أعمالي

حفرت نجلاء علام اسمها في حركة الكتابة الروائية والقصصية الجديدة بمصر، إلى جانب غاراتها ومغامراتها في عالم الأطفال، وفن القصص المصوّرة “الكوميكس”، متّخذة من الكتابة مساحة ملغومة، غير مستقرة، تسمح للذات بالحضور، وتجبرها على تقليب تربة الواقع، واستدعاء خيال رحب ولحظات إنسانية مقتنصة مغايرة. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الكاتبة المصرية.

تنطلق نجلاء علام في كتابتها الرواية والقصة والكوميكس، من منظور تثويري تنويري متحرر، مستثير للعقل والحواس، محفز للوعي والإدراك والأحلام، مناهض للقيم البالية والثوابت الجامدة، في الحياة والكتابة معا. هي تنشد بحروفها “الخروج إلى النهار”، وترتاد الإبداع بوصفه جموحا وأفقا وفتحا ولو بـ“نصف عين”، وسلسلة تحديات و“سيرة ذاتية للقلب”، آملة في تواصل دافئ حميم مع المتلقي الذي لا تتعالى عليه، وتعتبره صديقا له “عيون جميلة” ويد قادرة على المصافحة، وبذل “لمسة الأم”، اتساقا مع عناوين أعمالها المتنوعة.

“العرب” التقت نجلاء علام في هذا الحوار حول تجربتها الزاخمة في مجالات مختلفة، إبداعية وإدارية، وملامح كتابة المرأة السردية في الوقت الراهن، وعلاقة الحساسية النسوية بمستجدات الواقع وآفاق الحرية، وقضايا أدبية ونقدية ومجتمعية متعلقة.

فضاءات التأمل والحرية

ابنة للهامش المجتمعي
ابنة للهامش المجتمعي

منذ بداياتها في تسعينات القرن الماضي، حيث مجموعتها القصصية الأولى “أفيال صغيرة لم تمت بعد”، مرورا بأعمالها اللاحقة ومنها روايتا “نصف عين” و“الخروج إلى النهار” ومجموعة “روح تُحَوّمُ  آتية” وغيرها، وصولا إلى أحدث إصداراتها هذا العام مجموعة “سيرة القلب” ورواية “عروستي” للأطفال، وكوميكس “عند أبي” للأطفال، وتجربة نجلاء علام مقترنة دائما بمحاولة تقديم ما هو جريء ومختلف، حيث تبدو الكتابة حالة خاصة من الصراع والتوتر، للوصول إلى الجوهر الإنساني، كذلك فإن هذه الكتابة البسيطة المتجردة من الزخارف، مشحونة بالمعرفة والعمق وجوانب الحياة الثرية.

الكتابة من أجل الوصول إلى الجوهر الإنساني
الكتابة من أجل الوصول إلى الجوهر الإنساني

الكتابة والحرية وجهان لعملة واحدة، وقد ألقت الثورات العربية ظلالها على مسارات الكتابة الجديدة خلال السنوات الأخيرة، مضمونيّا وتعبيريّا وجماليّا وتقنيّا ولغويّا، وتآزرت في صياغة هذه الكتابة المتفجرة جهود الرجل والمرأة على السواء، مثلما أنهما تشاركا في ارتياد الميادين والمناداة بحياة نوعية مختلفة.

في خضم هذه الأجواء، اتسع مفهوم “الكتابة النسوية”، ليعني في إحدى صوره الإسهام الإيجابي الفاعل لكتابة المرأة في معركة الإنسان عموما، المتمسك بالأمل، الباحث عن الاستقلالية والكرامة، وذلك دون إغفال قضايا المرأة المجتمعية بطبيعة الحال.

الذات، كما تفهمها الكاتبة نجلاء علام، هي مجموع مدركات كل فرد عن نفسه ووجدانه وقيمه وانحيازاته ومجتمعه، وهي أيضا الذات الجامعة الراصدة، وليس بالضرورة أن تقف هذه الذات عند حدود ذات المبدع سواء كان كاتبا أو كاتبة، بل يجب أن تكون ذات المبدع جزءا منها، بمعنى أن الكتابة تنبع من ذات دالة، حاضرة، متحررة، قادرة على تجسيد عالم حي، من خلال علامات مهمة، تحيل ذات القارئ إلى تمثل العالم المكتوب عنه، ثم الغوص فيه وإعادة تأمله وتأويله من خلال ذاته.

بهذا المفهوم، تبدو الكتابة أولا وأخيرا وجهة نظر أو رؤية تجاه العالم، سواء نظرتها امرأة أو رجل، والمهم أن تكون وجهة النظر هذه محفزة على التأمل بالنسبة للقارئ، لتتمكن من دفعه إلى تعديل منظومة قيمه، وحثه على المزيد من التحرر، ولتنير له جزءا من مشاعره كان مطمورا تحت وطأة اليومي.

من هذا المنطلق، وفق رؤية نجلاء علام، يصبح الحديث عن الكتابة الروائية النسائية أو ملامح الكتابة النسوية، وغيرها من المصطلحات مرتبطا بمدى قدرة هذه الكتابة على تجسيد “بلاغة الحالة”، وهو المصطلح الذي أطلقه الراحل إبراهيم اصلان حين قال في حديث له “الحداثة الحقيقية هي سعي نقيض للبلاغة اللغوية، لتأسيس بلاغة الحالة التي يُعبر عنها الكاتب”.

هكذا، يكون من الصعب اختزال نوعية الكتابة في كون كاتبتها امرأة، أو أن السعي من وراء كتابة المرأة ينحصر في التعبير عن مشاعرها أو بحثها عن الاكتمال من خلال الآخر أو حتى الانفلات من قيود المجتمع وتحطيم التابوهات.

وتقول نجلاء علام في حديثها إلى “العرب” “المرأة ليست كائنا فضائيّا، بل هي في الأساس إنسان تكوّن نتيجة للتراكم المعرفي والوجداني، ومصدر التفكير عند الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة هو العقل، ومنبع الكتابة واحد، ومراحل تطور الكتابة عند الجنسين متشابهة”.

الزمن المخادع

كتابة نجلاء علام هي رحلة للبحث عما يدهش القارئ ويدهشها، إذ حاولتْ أن تضع يدها لتخرج بالصورة البصرية، التي تمزج بين السرد والوصف، وبإحساس خاص بالزمان والمكان، ومحاولة الاستفادة من الخبرات المعيشة، ورصد التحولات النفسية، وصارت الكتابة تمثل لها حالة خاصة “تصارعني الكتابة، وأصارعها، من أجل الوصول إلى الجوهر الإنساني”.

تتحاور الكاتبة مع الزمن الممتد منذ لحظة خلق الإنسان حتى اليوم الأخير للبشرية، عن طريق الخُدعة الأزلية التي يستخدمها الزمن ذاته، وتقول موضحة “هذا الزمن المُخادع يُشعرك بأن عمرك هو عدد الأيام والشهور والسنين التي عشتها، بينما في الحقيقة إن تكرار الأيام لا يعني العمر، بل العمر هو ما انطبع داخل النفس من هذه الأيام، ولهذا جرتني الكتابة إلى هذا الزمن المستبطن العنيد العصي الغائر داخل النفس الإنسانية من خلال نسق لا تراتبي”.

تسعى علام دائما نحو بنية متقنة ومغايرة، وتلعب المفارقة في كتاباتها دورا مهمّا، وتنحو إلى تكثيف المشهد وأحيانا تقطيره لنحت الملامح النفسية للشخصيات، ففي رواية “نصف عين” عمدتْ إلى بنية فنية مراوغة، فالسرد دائما يحيل إلى تفاصيل الأحداث، بينما الصورة العامة في النهاية تحيل إلى أزمة إنسانية عميقة.

وتؤكد “أدهشني المصطلح الذي أطلقه الدكتور صبري حافظ على هذه الرواية حين تناولها بالنقد، مشيرا إلى السرد المراوغ وعدم إمكانية الإلمام بتفاصيلها، وسمى ذلك تقنية المرايا المزدوجة، التي تنعكس على كل منها صورة مغايرة لنفس الحكاية التي تتكرر بين جيلين: جيل الأم وجيل ابنتيها. هذه المرايا المزدوجة صاحبتني في أعمالي، وأصبحت سمة، ففي الكتابة كل شيء نسبي مثلما هو في الحياة، ولا حقيقة مطلقة”.

تجربة نجلاء علام مقترنة دائما بمحاولة تقديم ما هو جريء، حيث تبدو الكتابة حالة خاصة من الصراع والتوتر

لا تعتبر نجلاء علام المناصب الإدارية التي شغلتها والجوائز التي حصدتها، اقترابا من الأضواء، أو تقدما نحو الواجهة، تلك التي تحرص على الهروب منها، لقناعتها بأن أي منصب هو مجرد تكليف لبذل جهد حقيقي من أجل الوصول إلى النجاح، بلا أي إغواءات أو إغراءات مزعومة. وكون الكاتب أو الكاتبة في قلب المشهد الثقافي، فهذا لا يعني أنه سوف يستفيد إبداعيّا، فالعكس هو الصحيح، كما ترى نجلاء علام، فمن ناحية بناء الذائقة وتطوير آليات الكتابة فإن “المشهد الثقافي في مصر غير مهتم بهذا الجانب، فلا توجد ورش عمل حقيقية، ومن ناحية المتابعة لكل جديد في الساحة الثقافية فهذا يعتمد على المبدع ذاته، وبشكل عام فالكتابة هي عمل فردي تماما في مصر”.

وتعتبر نجلاء علام نفسها ابنة للهامش المجتمعي، تعيش داخله، فليس معنى أنها كاتبة وتشغل منصبا أنها انتقلت إلى شريحة مختلفة اجتماعيّا أو اقتصاديّا، وتقول في حديثها إلى “العرب” “نعيش في مصر حالة من انفصام الشخصية، فنحن أمام الورق الأبيض لدينا إرادة الاختيار، كجنس راق يسمى الإنسان من حقه أن يعيش حياة كريمة، بينما نحن في حياتنا اليومية عبيد مناكيد”.

إذا كانت الرواية المعاصرة تشهد انفتاحات جديدة على فضاءات النشر الإلكتروني والرقمية والإنترنت والسوشيال ميديا وغيرها، بما يراه البعض قد أدى إلى تطورات أو نقلات كيفية في الأساليب والأبنية والمضامين، ويراه آخرون مبررا للتحدث عن أنساق سردية جديدة، فإن نجلاء علام تختلف مع هذا الطرح، معتبرة النشر الإلكتروني والسوشيال ميديا وغيرهما آليات لم تؤدّ إلى تطور الكتابة، بل على العكس، أصبح الوسيط متاحا ولحظيّا وغير مكلف ويضمن سرعة الانتشار.

ومن ثم، فقد تصور البعض أن الكتابة نفسها أصبحت أيضا متاحة، بمعنى أن أي شخص يمكنه المشاركة حتى وإن لم يمتلك الموهبة، ولحظية بمعنى أن ما يعن له يكتبه وينشره، وغير مكلفة بمعنى كلفة الوعي والدأب المعرفي والثقافي، كلفة احتشاد الذات المبدعة، وتضمن سرعة الانتشار، بمعنى أن كل شخص على الفيسبوك يمكنه سريعا تكوين جمهور من خمسة آلاف مشجع سيقولون له “أحسنت”، دون حتى دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة ما يكتب.

كاتبة تخط مرايا مزدوجة (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
كاتبة تخط مرايا مزدوجة (لوحة للفنانة هيلدا حياري)

 

15