نتنياهو المتمرد ينتظر معجزة تنجيه

ليس مفاجئا أن تكون الحكومة الإسرائيلية الحالية أكثر الحكومات تطرفا في تاريخ إسرائيل، فالمسار الحتمي لنظام عنصري أقام دولته على أرض شعب آخر هو التدرج من الاعتدال الشكلي الكاذب إلى التطرف.
الثلاثاء 2024/01/09
الخروج من غزة ليس مثل الدخول إليها

في سياقِ الحربِ التي تشنها إسرائيل على قطاعِ غزّة، استدعى بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيليّة في أحد خطاباته نصًّا دينياً، قائلًا “يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدس. ونحن نتذكر ذلك بالفعل، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا الذين يقاتلون الآن في غزّة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل”.

نتنياهو يعمل وفق معادلة أن الاحترام هو فقط للقوي، وأن العالم لا يحترم الضعفاء، وأن الضعيف له فقط دموع الشفقة، ولذلك أخذ يشدد في تصريحاته كلما أراد، ولن يتوقف عن تهديد من يريد من العرب والفلسطينيين. يكفي أن نتنياهو كشف عن نواياه بشكل واضح للغاية “إسرائيل ستفعل ما تحتاج أن تفعله”، بغض النظر عن أيّ تفكير بالتمني من الولايات المتحدة، وهو بذلك لا يسيء إلى الولايات المتحدة، فقط، وإنما إلى المجتمع الدولي بكامله. فهو عازم على مواصلة الحرب بأيّ ثمن وفي نفس الوقت يريد أن يشعل المنطقة برمتها، ولا يوجد لديه مانع في توسيع دائرة الحرب مع حزب الله، وحتى ضرب إيران.

تحوير الحقائق بات فناً لا يتقنه إلا القلة، بالرغم من أنه يمارَس بأشكال مختلفة منذ زمن قديم، فالتصريحات الأخيرة لنتنياهو أمام الكنيست تثير حفيظة العالم الحر، حيث قال يجب أن نهدم كل حجر في غزة ونقتلع الشجر، ونحن مستمرون في حربنا ضد حماس. فهو مجبر في داخله أن يعترف بأنه هو المعتدي، ومهما حاول حرف البوصلة فالحقيقة واضحة لا تغطى بغربال.

◙ ما يضاعف من مشاعر الانكسار لدى نتنياهو هو عدم وجود خطة لعدوانه على غزة، حيث يصعب أن تقوم خطةٌ من دون الارتكاز على رؤية واضحة

ولذلك لم يكن غريباً توحيد الرسالة الخطابية بين المعارضة والائتلاف، حيث يتفق زعيم المعارضة يائير لبيد مع نتنياهو في تفكيك حماس، ولكن يختلف معه في طريقة إعادة الأسرى. ويقول لبيد هنالك أكثر من طريقة لتحرير الأسرى الصهاينة، وهو يلوّح إلى الحلول التفاوضية، مؤكدا أن الجيش الإسرائيلي “مصمم على هدف استعادة المختطفين والقضاء على حماس، يجب أن نعمل كل شيء لاستعادة المختطفين والمعارضة ستدعم أيّ صفقة لعودتهم. نحن أقوياء بما يكفي للدفع بأثمان باهظة وممنوع على إسرائيل أن تترك أبناءها”.

وهذه نقطة الخلاف مع نتنياهو، وفي نفس الوقت يحمّله الفشل الذي أدى إلى أحداث 7 أكتوبر. لكن في المحصلة ثمة تفاوت كبير بين المعارضة وبين نتنياهو في أمور جمة منها احتواء نتنياهو لليمين المتطرف الذي تحمّله المعارضة ما آلت إليه الأمور في إسرائيل، وقبل ذلك حزمة التعديل القضائي التي لاقت معارضة شديدة في صفوف جل الإسرائيليين، ولكن في المحصلة ينطبق عليهم قول رب العزة  “تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى”.

اليوم، هناك واقع جديد في إسرائيل، فلقد دعت سارة نتنياهو زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو البابا فرانسيس إلى فرض نفوذه على حركة حماس، وحثها على إطلاق سراح الرهائن في غزة، وهذا يدلّ على مدى تأثير زوجة نتنياهو في الحياة السياسية، وتدخلها السافر في شؤون الدولة، فهي تريد أن يبقى نتنياهو زعيما لدولة الاحتلال حتى لو كان ذلك على حساب قتل المزيد من جنود الاحتلال. نحن بصدد جملة معطيات أهمها الكل يقاتل من أجل  فرض أمر واقع في غزة والضفة الغربية، حسب الرؤية التلمودية، ولو كلف ذلك أن تخسر إسرائيل كل العالم.

من باب تأكيد المؤكد فإن عنجهية اليمين الإسرائيلي بشقيه العلماني والديني التوراتي مستمرةٌ من قبل ومن بعد. رئيس وزراء الاحتلال  يمزج بين اليمين الديني المتطرف، وبين اليمين العلماني الذي يقوده، ولكن تأثره بزئيف جابوتنسكي صاحب نظرية “الجدار الحديدي” بدرجة أكبر. هنا لا بد من التنويه إلى فلسفة جابوتنسكي المسمّاة بـ”الجدار الحديدي” وهي بناء القوة العسكرية الصهيونية التي تشكل جداراً من الحديد لا توجد فيه أيّ تصدعات أو شقوق، بحيث كلما حاول العربي والفلسطيني مقاومة العدوّ الصّهيوني سيصطدم رأسه بهذا الجدار ويتعب وييأس، وفي هذه اللحظة بالذات يمكن التوصل إلى تسوية مع هذا العربي، وفق النظرة الصهيونية.

كما تشبّع نتنياهو بأفكار ديفيد بن غوريون وموشي ديان وغيرهما، وهم أصحاب العقيدة الأمنية التي تنص على ضربة استباقية وإنهاء الحرب بسرعة وفرض شروط التفاوض على العرب، وهذا ما يحاول نتنياهو فعله، لكن أحداث 7 أكتوبر قلبت موازين العقيدة الأمنية والدفاعية لدولة الاحتلال.

◙ التصريحات الأخيرة لنتنياهو أمام الكنيست تثير حفيظة العالم الحر، حيث قال يجب أن نهدم كل حجر في غزة ونقتلع الشجر، ونحن مستمرون في حربنا ضد حماس

ألقيت محاضرة بتاريخ 5 يناير – كانون الثاني 2016 في خيمة اعتصام في الصّليب الأحمر في القدس “ضدّ الإبعاد: التدرج في التطرف مسار إسرائيلي حتمي”. بنيامين نتنياهو الديماغوجي تجاوز بن غوريون في سنوات الجلوس على كرسي رئيس الوزراء. بن غوريون أسس إسرائيل وخاض حروبها، وتجنب أيّ تفاوض على السلام مع العرب، لأن الثمن كبير، وقال “الهدنة تكفينا”.

وليس مفاجئا أن تكون الحكومة الإسرائيلية الحالية أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل، فالمسار الحتمي لنظام عنصري أقام دولته على أرض شعب آخر هو التدرج من “الاعتدال” الشكلي الكاذب إلى التطرف، ثم التطرف الشديد، وصولاً إلى أعلى مراحل التطرف. إن تلك العجينة المُعقّدة لبنية الكيان الصهيوني دفعت نحو جنوح فئات واسعة نحو التطرف داخل بنى المجتمع اليهودي على أرض فلسطين التاريخية ومنهم نتنياهو.

ما يضاعف من مشاعر الانكسار لدى نتنياهو هو عدم وجود خطة لعدوانه على غزة، حيث يصعب أن تقوم خطةٌ من دون الارتكاز على رؤية واضحة. وإصرار نتنياهو على تقديم مصالحه السياسية سوف يقوده حتما إلى تهديد أركان دولته والإساءة لوجهها حول العالم دون أهداف واضحة، وهو يتخبط في خطاباته وكأن رؤيته للحرب رمادية تماما.

في المحصلة لن يربح نتنياهو الحرب على غزة على الإطلاق، ورغم الدمار الذي حل بالقطاع والقتل غير المبرر في صفوف المدنيين العزل، إلا أن الرابح الشعب الفلسطيني صاحب الحق، فخروج نتنياهو من غزة يحتاج إلى معجزة تنجيه. رغم ذلك يزعم أن غزة “لن تكون حماسستان ولا فتحستان”، فتلك أمانيه.

9