نبض القدس دائم الحضور في لوحات الفنان الفلسطيني حسني رضوان

مدينة التناقضات تولد من جديد بشخوصها ومعالمها.
الأربعاء 2022/10/26
إعادة تصوير للمدينة وتاريخها

يعيش الفنان التشكيلي حسني رضوان مسكونا بفلسطين والقدس فيحاول رصد معمارهما وأشكال أهاليهما وتخيلهم وإعادة تشكيلهم في لوحات بألوان متنوعة تبوح بأسرار القدس التي تحضر هذه المرة في معرضه بصفتها مدينة التناقضات.

عندما تُذكر كلمة "نبض" في سياق الكتابة عن عمل تشكيلي يكون المقصود بها في الغالب وصف حيويته من ناحية مضمونه الفكري أو من ناحية أسلوب تأليفه بالعناصر الفنية الأساسية كاللون والخط والأبعاد.

غير أن استخدام هذه الكلمة لوصف أعمال الفنان التشكيلي الفلسطيني حسني رضوان تحديدا، هذه التي يقدمها اليوم في صالة زاوية على المنصة الافتراضية الخاصة بها بالتزامن مع عرضها في صالة زاوية فرع دبي، ليس للوصف بالمعنى المجازي؛ تأتي هذه الكلمة بالمعنى المباشر.

وما على المُشاهد إلا تحسس النبض كما يقوم بذلك الطبيب، أو مراقبته واحتسابه كما يقوم بذلك العالم في مختبر فيزيائي بحت على اعتبار أنه، أي النبض، حصيلة تجاور أجزاء في بيان غرافيكي/توضيحي واحد.

سيخلص المتلقي من هذه المراقبة إلى معرفة تبدلات منسوب اللون بوصفه مادة كيميائية وحدها قادرة على فتح البصر على ما ينبض في لوحاته.

تحت عنوان "القدس، مدينة التناقضات" نظم الفنان حسني رضوان معرضه الفني الافتراضي في صالة زاوية الافتراضية ليركز كما ذكر البيان الصُّحفي المرافق على "التناقضات التي تلف المدينة المقدسة.. وليعبر في أعماله عن حبه للمدینة بمعمارها وأقواسها ورائحتها وألوانها والضجيج فیھا وطريقة الحیاة المميزة. والقدس تذكره كثيرا بمدینة بغداد التي ولد فيها وتلقى تعليمه الجامعي في جامعتها وقضى فیھا سنوات طفولته قبل أن يغادرها إلى بیروت حیث عمل ھنالك في التصميم والصحافة، بالإضافة إلى استمراره في الإنتاج الفني لأعمال تتناول القضية الفلسطينية".

◙ في لوحات رضوان "ذاب" العنصر الإنساني ليتحول إلى ما يشبه محلولا أثيريا في نسغ الأبنية والأشكال الهندسية المختلفة
في لوحات رضوان "ذاب" العنصر الإنساني ليتحول إلى ما يشبه محلولا أثيريا في نسغ الأبنية والأشكال الهندسية المختلفة

وفعلا، سيعثر مُشاهد لوحاته على هذا العشق الذي يكنه الفنان لتلك المدينة. وهو عشق طازج وندي بقي في رونقه الأول. لئن كان الفنان قد قدم معارض سابقة ظهر فيها الإنسان في فلسطين المحتلة كائنا شفافا يستريح على خلفية لوحاته من ألم رأس مزمن، ظهر خاصة في شكل رأسه شبه الحاد، ففي لوحاته هذه غاب العنصر الإنساني، بل لنقل “ذاب” العنصر الإنساني ليتحول إلى ما يشبه محلولا أثيريا في نسغ الأبنية والأشكال الهندسية المختلفة وليشي بأحوال المدينة ونبضها الذي يتعرض في معظم لوحاته إلى أمواج لونية بيانية تعلو حينا وتهبط أحيانا أخرى صانعة إيقاعا شديد البيان.

أحيانا "يصعد" الرمادي من أسفل اللوحة ليتوقف عند وسطها وقد لجمت صعوده أشكال الأبنية المُقنطرة والمُعاصرة، وأحيانا أخرى يهبط منسوب اللون/النسغ ليطال المدينة بكينونته المتفجرة التي لا تشبه الواقع بقدر ما تشي باحتدام الحياة كطاقة غير ملموسة، ولكن مرئية بشكل طاغ.

وسيتأكد مُشاهد اللوحات من أن هذه الوتيرة، التي نود أن نسميها بالبيانية، لها علاقة بدينامية خارجية متأتية من ارتباط المدينة بتاريخها وبالأحوال السياسية المفروضة التي تحتدم حينا وتخف وتيرتها حينا آخر.

سيتأكد حينما يقوم في خياله بوضع اللوحات المعروضة كلها إلى جانب بعضها البعض. سيرتسم حينئذ بيان النبض جليا أمامه وكأنه معروض على شاشة كومبيوتر يعمل وفق برنامج بياني/قياسي.

وسيظهر التناقض حينها وفي أبهى حلة. تناقض بين الأشجار، لاسيما أشجار الزيتون ورماديتها الغرائبية في إحدى اللوحات حيث بدت ملتحفة بذاتها الرمادية والمُبقية على إحالاتها المُشرقة في الآن ذاته. وستظهر أيضا في لوحة أخرى المنشآت المدنية ذات البناء الهندسي الشديد في تضاربها مع حمرة سماء تموج فيها غيوم ملونة ومتداخلة كإعصار شذّب قوته فتحول إلى مجموعة غيوم “مُسالمة” ومنصهرة.

وهنا نذكر لوحتين طغى عليهما الأحمر في تجاوره مع أبنية متنوعة الأشكال ورمادية اللون ومُرصعة وكأنها بنايات هندسية، مربعات ومستطيلات لونية مُضيئة: هنا أهل المدينة إن بحث المُشاهد عنهم. هنا أهل مدينة القدس الذين يختصرون بحضورهم التجريدي كل أهل فلسطين. هنا أهل المدينة الذين لم يرسمهم الفنان حسني رضوان كأجساد مكتملة في لوحاته السابقة واكتفى اليوم برسم عيونهم/شبابيكهم. شبابيكهم التي تفيض حيوية والمنتجة لجدلية آثرة ما بين الخارج والداخل.

وقد استخدم الفنان في ابتكاره لتلك الأعمال، وحسب البيان الصحفي المرافق للمعرض، "ألوان الفحم والأكريليك وأوراق الذهب ليعكس افتتانه بالمدينة المقدسة وباستخدامه الفحم على مساحات وخلطه بمساحات مجاورة من الألوان".

 مُشاهد لوحات حسني رضوان سيعثر على ذلك العشق الذي يكنه الفنان للقدس وهو عشق طازج وندي بقي في رونقه الأول
 مُشاهد لوحات حسني رضوان سيعثر على ذلك العشق الذي يكنه الفنان للقدس وهو عشق طازج وندي بقي في رونقه الأول

وقد يغيب التناقض كما في إحدى اللوحات حيث اجتاحت الألوان جميع مساحتها لتظهر باحتدامها اللوني الشامل مصحوبة بهدوء غرائبي انتظم في هيئاتها الهندسية المتماسكة والملتصقة ببعضها البعض. ولكن، وبمجرد رؤيتها كجزء من مشهد المعرض العام سنرى أنها تقوم بوظيفة تصعيد التناقض البياني العام.

حتى تلك اللوحة التي احتفظت فيها بعض البيوت بألوانها، عند اختراق واضح لآفاقها من قبل الرمادي، هي أيضا سبيل موفق لتظهير نوع من عصيان أمام الرمادي الذي أخفق في محاولة القضاء على الحياة أمام مقاومة لونية قياسها سهل علميا وبيانيا كما ذكرنا آنفا.

يُذكر أن الفنان حسني رضوان ولد في بغداد عام 1955 وعاش معظم حياته في الشتات، فقد هُجرت عائلته في عام 1948 إلى العراق وعاش طفولته في بغداد ومن ثم انتقل مع منظمة التحرير الفلسطينية إلى بیروت فقبرص وتونس حتى عاد إلى أرض الوطن.

وبعد اتفاقية أسلو تمكن الفنان من زيارة القدس للمرة الأولى. درس "الفنون الجميلة" في جامعة بغداد، وأقام عددًا من المعارض الفرديّة في العراق ولبنان وقبرص واليابان وفلسطين.

وشارك رضوان في معارض دوليّة، من بينها معارض برلين والقاهرة والشارقة. غادر بغداد في عام 1979 وتوجّه إلى بيروت، حيث كان يعمل في مجال التصميم الغرافيكيّ والصحافة، مع الاستمرار في الرسم والطلاء باستخدام مواهبه للتعبير عن موقفه من قضيّة شعبه.

وللفنان سلسلة من المعارض الفردية في فلسطين ولبنان وتونس وقبرص ونيقوسيا والعراق واليابان والكويت. ويعد معرض "القدس مدينة التناقضات" المعرض الثاني الذي ينظمه غاليري "زاوية" في صالة الغاليري الافتراضية ويستمر من 20 أكتوبر الجاري إلى 31 ديسمبر المقبل.

عشق أبدي للمدينة التي يعيش الفنان من أجلها وحاضرة في كل أعمالها بمعالمها وطقوسها
عشق أبدي للمدينة التي يعيش الفنان من أجلها وحاضرة في كل أعمالها بمعالمها وطقوسها 

 

13