نافذة الصين لا تحل أزمة الترجمة في مصر

تعاني الترجمة في مصر من أزمة حقيقية كبرى على صعيد النشر المؤسسي الرسمي، وتسعى الدور الخاصة إلى تحريك الماء الراكد من خلال جهود فردية، منها ذلك الانفتاح الأخير على اللغة الصينية، والترجمة منها وإليها، واستضافة مؤلفين صينيين في القاهرة، لكن هذه الجهود تبقى محدودة.
على الرغم من وجود مؤسسات وهيئات ثقافية رسمية عديدة في مصر، تضطلع بمسؤولية الترجمة من اللغات الأجنبية المختلفة إلى العربية، والعكس، فإن مشكلات ومعوقات الترجمة لا حصر لها في أروقة الهيئات الحكومية مثل “المركز القومي للترجمة” و”الهيئة العامة للكتاب” و”الهيئة العامة لقصور الثقافة”، وغيرها، إذ يفتقد النشر الرسمي البوصلة الهادية، بمعنى يفتقد المشروع والخطة والمنهج.
ويخضع النشر عادة للبيروقراطية والمجاملات والاختيارات العشوائية، كما أن قلة العائد المادي المدفوع للمترجمين تمثل خطرًا يهدد بوقف نشاط الترجمة تمامًا.
حاولت المؤسسة الرسمية إيجاد انتعاشة للترجمة من خلال فتح نافذة مع اللغة الصينية، لكن التجربة لم تؤتِ ثمارها المأمولة، الأمر الذي أفسح المجال لدور النشر الخاصة لمحاولة إنقاذ الموقف، وتسعى إلى تفادي مشكلات النشر الحكومي، وتراهن على التجربة الصينية أيضًا في الآونة الأخيرة، لكن بمعطيات وآليات مغايرة.
الحل الصيني
تبقى الترجمة على مر العصور هي جسر التواصل الأرقى بين الأمم، والنور الحضاري الرابط بين الشعوب، فلا سبيل لازدهار وتطور وتقدم من غير الانفتاح الواعي على الآخر، وإقامة حوار عميق معه، قائم على التبادلية والندية.
لهذا السبب كان أديب نوبل نجيب محفوظ (1911-2006) يردد دائمًا أن حلمه الأكبر هو إنشاء “مؤسسة عربية للترجمة”، تدار بأسلوب حديث ديمقراطي لامركزي، وتأخذ على عاتقها مهمة تعريف العالم بالإنتاج العربي، فضلًا عن نقل أمهات الكتب في شتى المعارف إلى العربية، ومثل هذا الكيان لم يتأسس على هذا النحو إلى يومنا هذا للأسف الشديد، وإن كانت مؤسسات محلية وإقليمية تحاول القيام ببعض الجهود الفردية هنا وهناك.
وفي ظل الكساد الحكومي، وتقاعس المؤسسات الثقافية الرسمية عن القيام بدورها المنشود، في ما يخص حركة الترجمة، من وإلى العربية، فإن دور النشر الخاصة هي التي أخذت زمام المبادرة، وقامت بنشاط ملحوظ في مصر خلال الفترة الماضية، وتسعى هذه الدور إلى محاولة تجاوز العقبات والعراقيل التي تواجه النشر الرسمي.
من بين الانطلاقات والأفكار الجديدة التي قدمتها مؤخرًا دور النشر الخاصة في ميدان الترجمة، الانفتاح على الثقافة الصينية، والترجمة منها وإليها، واستضافة كتّاب ومؤلفين صينيين في القاهرة، وعقد اتفاقيات خاصة مع الجانب الصيني، وهي جهود محمودة بطبيعة الحال، لكنها تبقى محدودة ضعيفة التأثير. ولا يمكن أن تحل نافذة الصين وحدها أزمة الترجمة في مصر. وكانت المؤسسة الرسمية لجأت أيضًا إلى الوجهة الصينية من قبل، لكنها لم تقدم نجاحًا يُذكر.
في سياق “الحل الصيني” الذي تقترحه الدور الخاصة لأزمة الترجمة، استضافت دار “صفصافة” في الثالث والعشرين من يونيو الجاري بمكتبة القاهرة الكبرى الكاتب الصيني “يو هوا” في لقاء مفتوح، بمناسبة صدور أحدث ترجماته بالعربية، وهي المجموعة القصصية “الماضى والعقاب”، بترجمة حسانين فهمي حسين، أستاذ اللغة الصينية بجامعة عين شمس، والمشرف على سلسلة “قراءات صينية”.
ودشنت “صفصافة” سلسلة “قراءات صينية” في أغسطس الماضي بهدف أن يكون الكتاب وسيلة لإزالة الحواجز الثقافية بين الشعوب، على أن يتم اختيار الكتب التي تعكس المجتمع الصيني والقضايا التي تحظى باهتمام الجمهور المصري والعربي.
والكاتب “يو هوا” (48 عامًا) هو أديب صيني، من مواليد مقاطعة هانغتشو، ومن رواياته “أن تعيش” و”سجلات تاجر الدم” و”نهر الزمن”، ومن مجموعاته القصصية “الماضى والعقاب”.
في الإطار الصيني ذاته انعقد مؤخرا “منتدى الأدب العربي الصيني”، بعنوان “الإبداع الأدبي على طريق الحرير الجديد”، برئاسة الشاعر حبيب الصايغ، الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. وناقش المنتدى عددًا من المحاور، منها: حركة ترجمة الأعمال الأدبية، التراث والإبداع الأدبي، الأدب في الحياة المعاصرة.
من بين ما تلمسه “منتدى الأدب العربي الصيني” أن حركة الترجمة الراهنة بين اللغتين العربية والصينية لا تعكس الآمال المرجوة وآفاق التعاون والتفاعل بين الشعبين والحضارتين، الأمر الذي يبدو بمثابة انهزام للثقافة في عالم تحكمه السياسة والاقتصاديات.
أزمة النشر الرسمي
عن الدور الذي يقوم به النشر الخاص لإنعاش حركة الترجمة في مصر في ظل الركود الحكومي وتقزّم دور المؤسسات الثقافية الرسمية، يشير محمد البعلي مدير دار “صفصافة” إلى محاولة الدار من خلال سلسلة “قراءات صينية” وغيرها تخطي الحواجز والعقبات الإدارية والبيروقراطية التي تجعل النشر الرسمي أمرًا محبطًا.
ويقول البعلي لـ”العرب” إن هناك تعطشًا لدى الجانب العربي للتعرف على أبجديات تطور وتنمية وتقدم المجتمع الصيني، فالتجربة الصينية محل تقدير واهتمام، ولذلك تعددت مجالات العلوم والمعارف التي ترجمتها الدار من الصينية إلى العربية، ومن أبرز العناوين الصادرة: “التنين يحلق”، “التنمية الاقتصادية في الصين”، “الحزام والطريق”، “صيف حار”، “الريف الصيني”، ” ديموغرافية الصين”، وغيرها.
ويوضح محمد البعلي أن المرونة والانسيابية ودقة وتنوع الاختيارات والحفاظ على حقوق المؤلفين والمترجمين على حد السواء، أبرز عوامل نجاح الدور الخاصة في ميدان الترجمة، وهذه الأمور تكاد تكون مفتقدة في النشر الحكومي الذي يعاني من سيطرة الموظفين وانتشار المجاملات وغياب الرؤية العامة الشاملة وضياع حقوق المؤلفين والمترجمين.
من جهته، يشير الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم، صاحب أكثر من سبعين كتابًا مترجمًا إلى اللغة العربية، إلى أهمية الترجمة كشعلة حضارية متنقلة بين الأمم، ورسول دائم للمعرفة من أجل المزيد من التنوير والتحاور البنّاء.
ويقول لـ”العرب” إن الترجمة في دور النشر الحكومية تعاني من معوقات كثيرة، منها المحاباة للأصدقاء والمعارف من ناحية، بخاصة أساتذة الجامعة الذين يتقن بعضهم اللغة العربية بدرجة ضعيفة، وقلة المردود المالي للمترجمين من ناحية أخرى، مقابل بعض المؤسسات الخاصة التي تعطي مبالغ جيدة نظير الترجمة.
من المشكلات كذلك صعوبة نيل حقوق التأليف من الناشر الأجنبي، مع أنها مبالغ زهيدة غالبًا، بخاصة بعد أن يُقال لهم إن النشر له طبيعة جماهيرية في مؤسسات أهلية لا تبتغي الربح. وهذه المشكلات، وغيرها، أدت إلى أن يصير العرب من أقل الأمم ترجمة في العالم، بل إن دارًا واحدة في فرنسا مثلًا تترجم كل عام أكثر مما يترجمه العرب خلال العشرات من الأعوام.
ويرى محمد عيد إبراهيم أن الحل السريع لأزمة الترجمة هو الذي تقوم به الآن بعض دور النشر الخاصة، خصوصًا تلك التي تتعامل مع مؤسسات أجنبية، فهي تدفع للناشر الأجنبي حقوق التأليف، كما تسهم في الطبع بشراء مجموعة من النسخ، وهي تدفع أيضًا مبالغ مجزية لقاء تعب المترجم. وبعض هذه الدور لا تتفق مع مؤسسات ثقافية أجنبية، لكنها تضمن البيع بترجمة الروايات، وهي جنس أدبي قابل للبيع أكثر من الأجناس الأخرى.
وتتبدى صورة النشر الحكومي الرسمي الهزيل، إذ تعاني المؤسسات الرسمية في مصر -مثل “المركز القومي للترجمة” و”الهيئة العامة للكتاب” و”الهيئة العامة لقصور الثقافة”- من فقدان الاستراتيجية والتخطيط المتكامل، كما تسود المشهد آفات الروتين والبيروقراطية والمجاملات والاختيارات العشوائية، بالإضافة إلى قلة العائد المادي المدفوع للمترجمين.
مثل هذه العوائق تؤدي عادة إلى انسحاب المختصين من الساحة، كما حدث على سبيل المثال مع الشاعر والمترجم رفعت سلام، الذي تقدم باستقالته من إدارة سلسلة “آفاق عالمية” (المختصة بالترجمة) التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة في أغسطس الماضي، وذلك بسبب أزمات عدة، منها -وفق نص استقالة سلام-“البطء في إصدارات الهيئة، والتعطيل الدائم لإصدارات السلسلة، والتدخل في الصلاحيات المقررة لرئيس التحرير، والتحرش البيروقراطي بآلية العمل”.
وقصدت المؤسسة الثقافية الرسمية أيضًا النافذة الصينية من أجل إنعاش حركة الترجمة في مصر، لكنها لم تقدم نجاحًا يُذكر، إذ لم يسفر “العام الثقافي الصيني” الذي دشنه وزير الثقافة السابق حلمي النمنم بالتعاون مع السفارة الصينية بالقاهرة في 2016 إلا عن بعض الفعاليات والإصدارات القليلة ضعيفة التأثير، منها كتب عن تاريخ العلاقات بين البلدين، والعلاقات الدبلوماسية المصرية الصينية، وانقضى العام دون حل أزمات الترجمة ومشكلاتها المتعددة.