نادي السينما: العراك الشخصي والطموح الفردي والتقلبات السياسية

سامي السلاموني شارك مع عدد من المثقفين في دعم وتأييد الانتفاضة الطلابية الجامعية الواسعة عام 1972، وكان من أوائل الموقّعين على بيان الطلبة الذي يطالب السادات بتقديم كشف حساب عن المرحلة السابقة.
الأربعاء 2019/11/27
الفيلم التشيكي "ماركيتا لازاروفا" قدم في العام 1966 رؤية بصرية مدهشة

كانت أفلام نادي السينما في بداياته تأتي، في معظمها، من بلدان أوروبا الشرقية مثل الاتحاد السوفييتي والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا، بحكم النشاط المكثّف لمراكزها الثقافية في القاهرة، والاتفاقيات الثقافية التي كانت مصر قد وقعتها مع تلك البلدان.

وقد بُهرنا جميعا في ذلك الوقت، على سبيل المثال، بالفيلم التشيكي “ماركيتا لازاروفا” (1966) Marketa Lazarova برؤيته البصرية المدهشة وطابعه الملحمي وجرأته في استخدام الجسد البشري في التعبير، وغير ذلك من العناصر الفنية التي لم يكن من السهل بالنسبة لشاب في مقتبل العمر مثلي أن يجد لها تفسيرا شاملا.

كان هناك ثلاثة من أعضاء مجلس إدارة النادي وقتذاك يشكلون ما يطلق عليه “لجنة النشرة”، هم الذين يتولون مسؤولية قراءة ومراجعة وإقرار المقالات التي تنشر أو التي لا تنشر في نشرة نادي السينما، وهم سامي السلاموني وسمير فريد وأحمد الحضري. ولم تكن هناك مجالات كثيرة مفتوحة للكتابة في ذلك الزمن.

وقد دارت في تلك الفترة من أوائل السبعينات، أي من 1973 إلى 1975، معارك ضارية بين مجموعة النقاد الشباب الصاعدين الذين كانوا يسعون إلى الحصول على مساحات أوسع للنشر، وبين مجموعة النقاد القدامى وعلى رأسهم سامي السلاموني.

وكان السلاموني يميل إلى مقاومة زحف نقاد شباب مثل فايز غالي والفاروق عبدالعزيز ومحمد زهدي وأحمد عبدالعال وكاتب هذه السطور، وكان بالتالي يعيق نشر الكثير ممّا يتقدّمون به لنشرة النادي، أو يؤجل نشر بعضها أو يختصره.

وقد دارت مناظرة بيني وبينه على صفحات النشرة نفسها عام 1974 حين كتبت أنتقد سياسة لجنة النشرة، ورد هو عليّ في نفس العدد من النشرة ردا قاسيا، فاضطررت لكتابة 17 صفحة بخط اليد أرد فيها عليه قمت بتركها له في مظروف في مركز شارع شريف وكانت تمتلئ بالانتقادات الشديدة لما أسميته “ذاتيته وصلفه”، لكني أشهد أن كتابة هذه الصفحات لم تثر غضبه بل ساهمت في تهدئته قليلا، واستمر السجال ووصف هو بسخريته المحببة ما كتبته عنه بأنه “رسالة ماجستير”.

وسرعان ما عادت المياه إلى مجاريها وأصبحنا نقترب مجددا من بعضنا البعض، ولكن دون صداقة متينة. وكان سامي يشعر دائما بنوع من المرارة الشخصية، وكان كثيرا ما يردّد أنه عانى الأمرين لكي يصبح صحافيا، ويروي لي كيف أنه ألقي به خارج جريدة المساء بعد أن رفضوا قبوله كصحافي إلى أن جاء عبدالفتاح الجمل وبدأ يقبل نشر مقالاته. وكان يقول “لقد وصل الأمر في وقت من الأوقات إلى أنني كنت أتخيل أن أي شخص في مصر يمكن أن يكون صحافيا باستثنائي أنا”!

وكنت أتعجب من قوله هذا، فقد كان صحافيا موهوبا، وصاحب أسلوب صحافي بسيط وجذاب وساخر. لكن خلافاته مع غيره من النقاد كانت أيضا شديدة، وكانت تلقي بظلالها على الكثير ممّا يحدث. كان هناك خلافه الشهير مع مصطفى درويش بسبب الصراع على رئاسة جمعية الفيلم، وكان مختلفا بشدة مع سمير فريد، لأن سمير كان الأكثر نشاطا، والأكثر قدرة على السفر للمهرجانات السينمائية خارج مصر، والأكثر مهارة أيضا في تجميع الآخرين وقيادتهم والتعامل مهم بهدوء وبطريقة التوازنات، فقد كان يحسب حسابا لكل من اليمين واليسار، الشباب والكبار، الأصدقاء والأعداء، لكنه كان بالتأكيد يمتلك “أجندته” الخاصة، التي لم نكن نعرف عنها الكثير.

وكانت له أيضا علاقات عربية واسعة خارج مصر، وكان ينشر كثيرا في الصحف والمجلات العربية، وكان هو الذي سعى لتأسيس جمعية النقاد من البداية. وغالبا اعتبر سامي السلاموني أن سمير كان يريد فرض هيمنته على جمعية النقاد واستخدام الجمعية لتحقيق مصالح شخصية.

وكانت تلك على أي حال -ومازالت- طبيعة تلك الصراعات الصغيرة في الوسط السينمائي والصحافي وبين من يشتغلون بالنقد السينمائي، بسبب غياب أو تعطل المشروع الكبير، وتضاؤل الفرص الحقيقية والقدرة على التأثير في مجمل النشاط السينمائي في مصر. ولا تزال “الغيرة” الشخصية تلعب دورا رئيسيا في صراعات النقاد، لكن كان نادي السينما على أي حال، يجمع بين الجديد والقديم، وكان يقدّم في فترة من أصعب الفترات التي شهدتها مصر سياسيا، الكثير من الأفلام التي فتحت عيوننا على “السينما الأخرى” في العالم، ورسّخت أساسا للثقافة السينمائية.

شارك سامي السلاموني مع عدد من المثقفين في دعم وتأييد الانتفاضة الطلابية الجامعية الواسعة عام 1972، وكان من أوائل الموقّعين على بيان الطلبة الذي يطالب السادات بتقديم كشف حساب عن المرحلة السابقة.

وكان من أبرز أبناء جيله الموقعين على بيان الطلبة: أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل وعبدالعزيز مخيون ومحسنة توفيق ومحمود بقشيش وصلاح عيسى، وكانوا يتردّدون على الجامعة يلهمون الطلاب.

لم يعتقل السلاموني في عهد السادات، لكن اسمه وضع في قائمة الصحافيين والكتاب والإعلاميين الذين طردوا من وظائفهم وأحيلوا إلى هيئة الاستعلامات على أن يقبضوا رواتبهم دون القيام بأي عمل. وكان من بينهم أحمد بهاء الدين ولويس عوض ونبيل زكي ومحمود أمين العالم وغيرهم.

لكن قرارا آخر صدر بمنع سامي السلاموني من الكتابة في نشرة نادي السينما، كذلك تم منع سمير فريد ورفيق الصبان من الكتابة في النشرة في صيف 1973 تحت تصوّر أن كتاباتهم تدعو للشيوعية وتروّج للفكر الماركسي اليساري. وكانت تلك ضربة شديدة الوطأة على سامي، فهي تعني عمليا حرمانه من دخل شهري ثابت كان يأتيه من الكتابة، في حين أن الآخرين لم يكونا في أزمة حقيقية بسبب ارتباط سمير فريد بمجلات عربية خارج مصر، ورفيق الصبان بكتابة سيناريوهات للسينما المصرية. وقد استمر المنع لعدة أشهر إلى ما بعد حرب أكتوبر حينما أفرج السادات عن المعتقلين وأعاد الصحافيين المفصولين إلى وظائفهم.

وكان سمير فريد قد استقال من عضوية لجنة النشرة في نادي السينما، وتفرّغ لكتاباته الخاصة ونشاطه الكبير في جمعية النقاد وجماعة السينما الجديدة. وقد قام بعد ذلك بتأسيس جريدة “السينما والفنون” التي صدرت عن دار التحرير بصفة أسبوعية. وكانت تجربة جديدة وجريئة تماما في الصحافة السينمائية.

وقد شارك بالكتابة في الجريدة عدد كبير من أعضاء جمعية النقاد باستثناء سامي السلاموني الذي استقال من الجمعية كلها بعد تفجر الخلافات بينه وبين سمير فريد بشأن مهرجان الفيلم البرازيلي الذي أقامته الجمعية عام 1975 بمبادرة واتصالات خاصة من سمير، وهو ما اعتبره السلاموني أمرا يوجب المساءلة بدعوى أن الجمعية لا يجب أن تتعامل مع دول أجنبية وكانت تلك وقتها “تهمة” جاهزة يروجها النظام ضد كل من يعارض توجهات الرئيس السادات، ولكن السلاموني بالطبع لم يكن يقصد توجيه تهمة العمالة، بل كان فقط يرى أن حصول الجمعية على أي دعم مالي من سفارة أجنبية، كان يجب عرضه على الجمعية أولا. وانتهى الأمر باستقالته من الجمعية مع الناقدة خيرية البشلاوي.

16