مواجهة الإدمان بالعزل الوظيفي تصطدم بالتمرد في مصر

هل اختارت مصر الشريحة الاجتماعية الخطأ في حربها على المخدرات
السبت 2021/05/08
احذر السقوط في فخ الإدمان

التأييد الواسع لعزل مدمني المخدرات من وظائفهم في مصر يثير جدلا اجتماعيا، خاصة أن تبعات الفصل من الوظيفة ستكون أكثر خطورة من الإدمان، وتخلف ظواهر أكثر شراسة.

القاهرة - قبل عامين، شارك محمود السيد، وهو شاب مصري في العقد الثالث من العمر، بحفل زفاف أحد أصدقائه، وكان العُرس بمنطقة شعبية بمحافظة القاهرة، وفوجئ بتوزيع أنواع مختلفة من المخدرات على الطاولات كنوع من الترحيب بالضيوف، وإصرار أهل العريس على مجاملتهم وتحسين مزاجهم.

لم يكن الشاب الذي يعمل موظفا بهيئة البريد الحكومية يدخن سوى السجائر، ومع إصرار أصدقائه على تقليدهم قام بتناول مخدر الحشيش وشعر بنشوة غير معتادة، بعدها ارتبط هروبه من الضغوط الاجتماعية بشراء المخدر وبات مدمنا.

ومنذ إعلان الحكومة مؤخرا عن تقدمها بمشروع قانون إلى مجلس النواب يقضي بفصل أي موظف حكومي أو خاص من وظيفته، حال ثبوت تعاطيه المخدرات، وحياة الشاب محمود انقلبت رأسا على عقب، فهو لا يستطيع الإقلاع عن الإدمان، ويخشى انتهاء مسيرته الوظيفية ويتحول بعدها إلى عاطل، وربما لص.

قال الشاب لـ”العرب” إن مشكلة الحكومة في مواجهتها لأزمة ارتفاع نسبة الإدمان بالمجتمع أنها تقصر العلاج على الترهيب دون البحث وراء خلفيات وأسباب لجوء شريحة كبيرة بين الصغار والشباب والكبار لهذا السلوك، والإقرار بأن هناك كبتا وإحباطا وراء الهروب للمزاج.

ويحظى التشريع الحكومي بتأييد واسع من نواب البرلمان، خاصة بعد الحادثة المأساوية التي وقعت الشهر الماضي بين قطارين في محافظة سوهاج جنوب مصر بسبب غياب وعي سائق أحد القطارات ومراقب برج السكة الحديد لتناولهما المخدرات قبل وقوع الحادث مباشرة، ما تسبب في مقتل وإصابة العشرات. ;يؤيد كثيرون إقرار تشريعات بعقوبات صارمة ضد المدمنين بين العاملين في المؤسسات الحكومية والخاصة الذين ترتبط طبيعة عملهم بالاحتكاك المباشر مع الجمهور، ولدى الحكومة قناعة راسخة بأن سياسة المهادنة من خلال عرض العلاج المجاني على متعاطي المخدرات طواعية لن توقف انتشار الظاهرة.

وقف المهادنة

عادل السيد: مواجهة الإدمان تنطلق من علاج الأسباب بشكل عقلاني

أمام التأييد الواسع لعزل مدمني المخدرات من وظائفهم، هناك آراء تحذر من مخاطر التحرك على الاستقرار المجتمعي، لأن تبعات الفصل من الوظيفة ستكون أكثر خطورة من الإدمان، باعتبار أن المدمن شخص متمرد لا يعنيه سوى ذاته، وقد تكون النتائج كارثية.

ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن العزل الوظيفي قد يترتب عليه استمرار المدمن في نفس الطريق حتى بعد انتهاء عمله بالحكومة أو القطاع الخاص، وقد يتحول إلى مجرم يرتكب أبشع الجرائم للثأر من المجتمع الذي ظلمه أو يقوم بجلب المخدرات بأموال غير مشروعة مثل القتل والسرقة.

ويتفق أغلب الداعين لحتمية تطهير المجتمع من المخدرات وتعقب المتورطين في الإدمان لعلاجهم بالترغيب أو الترهيب، على أن الأمان المجتمعي لن يتحقق سوى باختفاء الظاهرة كليا، لكن ذلك يتطلب التعامل مع الأمر بخطوات محسوبة حتى لا تترتب على ذلك ظواهر اجتماعية أشد قسوة في ردة الفعل.

وإذا كانت المواجهة بالترهيب مطلوبة في توقيتات محددة بعد استنفاد الكثير من حلول الترغيب مثل تقديم العلاج للمدمنين مجانا في مراكز حكومية وبطريقة سرية، فالتصدي للظاهرة يتطلب أن يشارك المجتمع نفسه في تطهير ذاته من المدمنين، على أن تكون البداية من الأسر نفسها.

وما يبرهن على أن التشريعات وحدها لم ولن تكون كافية لمحاربة انتشار المواد المخدرة، أن أغلب المجتمعات العربية لديها ترسانة من التشريعات الصارمة التي تحارب الظاهرة بقوة، وهناك عقوبات تصل حد الأشغال الشاقة والإعدام للتاجر والمتعاطي الذي ارتكب جرما، لكنها لم توقف عداد الزيادة في معدلات التعاطي.

وأوضح عادل السيد الباحث في القضايا الاجتماعية والمحاضر في التنمية البشرية أن أيّ حكومة ترغب في تطهير المجتمع من الإدمان عليها أن تبحث أولا وراء الأسباب الواقعية للظاهرة ولا تتهرب من الحقيقة، فهناك فقر وحرمان وأزمات اقتصادية معقدة، وكبت متزايد بين الشباب، أي أن الأرضية ممهدة للتعاطي.

وأضاف لـ”العرب” أن العزل الوظيفي حل واقعي، لكن التدرج في تطبيقه ضمانة لعدم تحول المدمن إلى عدو للمجتمع والدولة، فالمتعاطي بطبيعته لن يقلع عن المخدرات بسهولة، ويجب أن يتم منحه فرصة كافية للعلاج والإقلاع، قبل اتخاذ قرار بمعاقبته بالفصل، لأن ذلك ينعكس على بيئته العائلية وأسرته والمجتمعية عموما.

وما يثير امتعاض البعض أن الحكومة المصرية وهي تفكر في سن تشريع يقضي بفصل الموظف المدمن أن أغلب المتعاطين ينحدرون لأسر بسيطة ومناطق شعبية وريفية تصل فيها معدلات الفقر لمستويات قياسية، أي أن النسبة الأكبر من سبب المشكلة نفسية، ما يفرض التحرك في أكثر من مسار لتصحيح مسار المجتمع.

وبالتوازي مع خطوة الترهيب لم تتحرك المؤسسة المعنية بمواجهة الأزمة، لعلاج المسببات الأخرى التي حوّلت التعاطي إلى ظاهرة، فهناك غياب للرقابة على الصيدليات التي تبيع الأدوية المخدرة دون ضوابط، وهناك شبهة تخاذل من بعض الأجهزة الرسمية في تعقب تجار المخدرات وغلق منافذ بيعها بصرامة.

كما وصل انتشار تعاطي المواد المخدرة بين طلبة المؤسسات التعليمية إلى أرقام مخيفة، ويكفي أن وزارة التضامن الاجتماعي المسؤولة عن صندوق مكافحة الإدمان قالت إن أكثر من 18 في المئة من المتعاطين بين 15 إلى 20 عاما، ورغم ذلك لا توجد إستراتيجية واضحة لحماية هؤلاء من الإدمان.

وتبدو المواجهة الحاسمة مع الشريحة المجتمعية التي تعمل في الجهاز الحكومي أو الخاص مهمة، لكن هؤلاء يصل عددهم لقرابة عشرة ملايين شخص فكيف سيتم الفرز بينهم، وما هو التصرف مع المراهقين بالمدارس وشباب الجامعات الذين يعملون في مهن حرة أو ورش خاصة ويتعاطون المخدرات باعتبارها المحفز لزيادة العمل والدخل دون إرهاق جسدي أو نفسي، كما يفكر سائقو الحافلات الضخمة الذين يتسببون في النسبة الأكبر من حوادث الطرقات.

الفن يشرعن المخدرات

رسائل متعارضة
رسائل متعارضة 

يرى الباحث عادل السيد أن الإستراتيجية الواقعية لمواجهة الإدمان بأي مجتمع تنطلق من تحديد الأسباب وعلاج كل منها بشكل عقلاني، فمثلا، لماذا لا يتم البحث وراء إدمان شريحة من مجتمع المراهقين الملتحقين بالتعليم، من المؤكد أن هؤلاء لديهم مبررات وتفسيرات يجب التصدي لها بالتوعية والحوار والنزول إلى مستوى أفكارهم وتذليل الصعوبات التي تدفعهم إلى الهروب من الواقع إلى الخيال وإسعاد الذات بالاحتماء في مادة مخدرة تنسيهم ما لديهم من أزمات.

ويشير خبراء إلى أن ثمة مشكلة أخرى تتعلق بأن المجتمع يقدم إليه خطاب إعلامي وفني يمجد المخدرات ويمتدح المتعاطين أحيانا أو يضعهم في خانة الفئة الأكثر سعادة ونسيانا للهموم، وهي مشاهد تتناقض كليا مع التوجه الرسمي للدولة بتوسيع دائرة المواجهة مع المدمنين من مختلف الشرائح المجتمعية.

وجسدت بعض الأعمال الرمضانية التي تعرض في الموسم الدرامي الحالي تاجر المخدرات باعتباره بطلا خارقا، يمتلك من المال ما يكفي لإسعاد نفسه وشراء كل شيء بسبب المكاسب الخرافية التي يجنيها، كما صورت المدمن على أنه الشخص السعيد الذي يشعر بالنشوة والمتعة ونسيان هموم وأوجاع الحياة، ما يسهم في خلق رغبة عند شريحة من الجمهور المتلقي في التقليد الأعمى، بحثا عن المال أو اللحظات السعيدة التي صارت نادرة مع زيادة الفقر وصعوبات الحياة.

وأعلن صندوق مكافحة الإدمان أخيرا أنه رصد 569 مشهد تدخين و165 مشهد تعاطي مخدرات في بعض الأعمال الرمضانية، بالمخالفة لوثيقة التزام صناع الدراما بالتناول الرشيد لظاهرة التدخين والإدمان التي سبق أن تم التوافق عليها وإقرار بالتعاون بين الصندوق ونقابة المهنة التمثيلية.

ويرى متابعون أنه لا مشكلة في أن يكون الفن مرآة للمجتمع بظواهره وطقوسه وأزماته، شريطة عدم الترويج لارتكاب أفعال خارجة على القانون مثل استحسان التعاطي، فالأعمال الفنية في الماضي كانت تقدم المدمن للناس بطريقة تدفع كل الفئات المجتمعية للنفور منه والتحريض عليه، حتى صار يتم تقديمه كبطل شعبي يستمد قوته من الإدمان.

ويمكن البناء على ذلك أن المجتمع الذي يعاني ظاهرة التعاطي بحاجة أولا إلى تغيير معتقداته تجاه المواد المخدرة، ولن يتحقق ذلك قبل تقديم القدوة الحسنة التي يتأثر بها الناس إيجابيا، فلا يصح إظهار المدمن باعتباره مثلا أعلى، أو الإيحاء بأن التحول من الفقر إلى الغنى يتطلب القيام بأفعال سلبية مثل المتاجرة في المواد المخدرة.

ويقول متخصصون في علم الاجتماع إن المواجهة الحكومية بالترهيب تتطلب تحركا موازيا بالترغيب والنصح والإرشاد، فلا يُعقل تقديم قوالب درامية على شاشات حكومية تروج للمخدرات ثم تكون بعض الفواصل الإعلانية عبارة عن حملات توعية لإقناع المتعاطين بالإقلاع عن هذه العادة السيئة، فلماذا قانون العزل الوظيفي للمدمن.

وحسب دراسة صادرة عن مركز المصريين للدراسات القانونية والاقتصادية والاجتماعية، فإن ما ينفقه المصريون على تعاطي المخدرات يقترب من 140 مليار جنيه سنويا (نحو مليار دولار)، وهو رقم ضخم إذا قورن بالدخل الشهري للشريحة الأكبر بالمجتمع.

الحادثة التي وقعت بين قطارين في سوهاج كانت بسبب غياب سائق القطار ومراقب برج السكة عن الوعي لتناولهما المخدرات

ولدى شريحة واسعة في المجتمع قناعة بأن المخدرات وحدها قادرة على تجاوز المشكلات الأسرية ومعالجة ضغوط العمل وزيادة القدرة الجنسية، وكلها أفكار ومعتقدات لم يتم علاجها بالوعي وتقديم الدليل الذي يغير من نظرة الناس، حتى الراغبين في تجربة المخدرات سقطوا من حسابات التوعية لحثهم على التراجع مبكرا.

ويصعب فصل انتشار الإدمان بالمجتمع المصري ووصول النسبة إلى 10 في المئة من التعداد السكاني، وفق إحصائيات رسمية، عن ارتفاع منسوب الإحباط واستمرار الفراغ وغياب الزخم السياسي، وفقدان الأمل في التغيير للأفضل، لأن انشغال الشباب بمشكلاته وشعوره بتهميش دوره قد يدفع البعض منهم لسلوكيات غير منضبطة.

وأمام ارتفاع منسوب اليأس وجدت شريحة كبيرة في الإدمان ملاذا لها، وهي أكبر معضلة تواجه الحكومة في نجاح خطتها لتحجيم ظاهرة التعاطي خاصة بين المراهقين والشباب، فهؤلاء يشعرون بأن العلاقة بينهم وبين المؤسسات شبه منقطعة، والحواجز صارت كثيرة، وفرص التلاقي تبدو صعبة أمام زيادة الطاقات المكبوتة.

وأصبحت شريحة كبيرة من الفئة المجتمعية التي صارت تتعاطى المخدرات تجاهر بالفعل، بمعنى أن الرهبة من الحكومة وقوانينها لم تعد موجودة نتيجة ارتفاع وتيرة التمرد والعصيان والخروج عن المألوف، رغبة في التمرد على كل ما يرتبط بالأعراف والقوانين الحاكمة، التي خلفت مشاعر القهر والإذلال.

وتكمن خطورة انتشار المخدرات في مجتمع يعاني الفقر وندرة الوظائف وسيطرة العشوائية على تصرفات البعض من أفراده، أن ارتكاب الجرائم البشعة صار أمرا معتادا، وهو ما حذر منه صندوق مكافحة الإدمان، حيث ربط بين حوادث القتل والاغتصاب والتحرش والسرقة، والإدمان، دون وازع أو خوف من الفضيحة أو العقاب.

ووفق إحصائيات وزارة التضامن الاجتماعي، فإن 86 في المئة من مرتكبي جرائم الاغتصاب كانوا يتعاطون المخدرات قبلها بساعات، مقابل 23 في المئة للمتهمين في جرائم القتل العمد، و24 في المئة من مرتكبي جرائم السرقة بالإكراه، وهذه النسبة في تزايد، بعدما سجلت نسبة التعاطي بين الذكور 73 في المئة مقابل 27 بين الإناث.

المشكلة في الوعي

Thumbnail

أكد اللواء فاروق المقرحي مساعد وزير الداخلية الأسبق أن ارتفاع نسبة التعاطي وغياب الرهبة من العقاب يحمل خطورة مجتمعية وأمنية بالغة، وتحرك الحكومة للتلويح بسياسة الترهيب مطلوبة، لأن النسبة الأكبر من الجرائم تُرتكب دون وعي أو إنسانية، ومطلوب فورا وقف مشاهد المخدرات في السينما والدراما.

وأضاف المقرحي لـ”العرب”، وهو أيضا عضو مجلس الشيوخ، أن التحدي الأكبر أمام الحكومة لتحجيم ظاهرة الإدمان، عدم مبالاة شريحة كبيرة من المتعاطين بالعقوبة من الأساس، وللأسف، هناك من يبرر الإدمان بظروف اجتماعية واقتصادية، مع أن هناك دولا متقدمة تعاني زيادة التعاطي بين أفرادها، وأحوالهم المادية أفضل، ما يعني أن المشكلة في الوعي.

فاروق المقرحي: تحرك الحكومة للتلويح بسياسة الترهيب مطلوب

ولفت إلى أن العزل الوظيفي للمدمنين يتطلب إجراءات أخرى تمهد الطريق أمام الدولة لتطهير المجتمع من مسببات الخروج على القانون والتقليد المجتمعي، مثل السيطرة على الصيدليات التي تبيع أدوية مخدرة، وأن تكون المحاسبة شاملة دون انتقائية، وتوعية الأسر نفسها بكيفية اكتشاف الأبناء المدمنين وعلاجهم مبكرا.

إذا كان الإقصاء من الوظيفة حلا مثاليا، فهو يصطدم بجملة من التحديات، فالمجتمع لديه ثقافة راسخة بضرورة الالتفاف على القوانين التقليدية، فمثلا، هناك مراكز علاج إدمان وهمية تقدم وصفات عشوائية مثل إقناع المدمن بتناول محلول الخل الأبيض لفترة، حتى لا يظهر في التحاليل أنه يتعاطى، وصيدليات تبيع عقاقير منع الحمل والأدوية المدرة للبول لما يشاع عنها أنها تخفي آثار المخدرات بالجسد وتطردها.

ويظل التحدي الأكبر أمام الحكومة لتطهير المجتمع من المدمنين كليّا أن ثقافة الواسطة ودور العلاقات الشخصية مازالت حاضرة في بعض المؤسسات الرسمية، فقد تتم مجاملة موظف من مديره ليخفي عنه تهمة الإدمان، وقد يجلب الموظف ما يفيد أنه مريض وعلاجه يتطلب عقاقير مخدرة، مثل المخصصة للأمراض النفسية والعضوية.

ويفرض ذلك على الحكومة أن تكون لديها إرادة سياسية قادرة على محاربة الفساد الإداري في بعض الجهات لتجنب الانتقائية في التطبيق، إذا كانت ترغب في توصيل رسالة ردع وترهيب لكل الفئات، لا اقتصار الأمر على شريحة بعينها، لأنها ستكون متهمة بمحاربة الإدمان بالفصل الوظيفي بغرض تقليص أعداد العاملين في الدولة.

20