موائد رمضان تحيي قيم التآخي بين المسلمين والأقباط في مصر

القاهرة - أظهرت بعض المظاهر التي شهدها شهر رمضان في مصر بين المسلمين والأقباط مدى تقدم الطرفين في إرساء قيم التسامح من خلال إقامة موائد للطعام، معروفة بـ”موائد الرحمن”، للفئات البسيطة بتعاون واضح، حيث يقوم قساوسة في كنائس بتجهيز كراتين مساعدات غذائية لتوزيعها على فقراء المسلمين.
وتوقفت بعض الأصوات المتشددة على شبكات التواصل الاجتماعي عند هذه الظاهرة التي تنامت هذا العام، وأبى أصحابها تفويتها بدون محاولات لتخريب قيم التسامح والتآزر بين المسلمين والأقباط، وسعوا جاهدين لضربها عبر فتاوى وتفسيرات متطرفة، تحرم الالتحام بين عنصري الأمة، بالاستناد إلى حجج واهية، لكن مساعيهم باءت بالفشل مع إصرار كل طرف على نجاح المشهد الإيجابي.
وبدت مشاركات المسلمين والأقباط في موائد الرحمن وتعبئة وتوزيع كراتين المساعدات الغذائية على الفقراء من المنتمين إلى الديانتين حالة جذابة تبرهن على أن هناك شريحة واسعة في المجتمع تتمسك بالتلاحم في الشعائر الدينية، بغض النظر عن أسلوب تحقيقه وهوية العقيدة، بل تعتبرها فرصة ثمينة لإعلاء قيم الترابط.
ولاحظ متابعون أن مشاركات المسلمين والأقباط في هذه الموائد وتوزيع مساعدات على البسطاء لم تكن حالات فردية قاصرة على أشخاص بعينهم أو أماكن محددة، حيث باتت ظاهرة بين أبناء العقيدتين، وهو ما انتقل إلى المجتمع، وأثنت عليه أصوات دينية وفكرية معتدلة، واعتبرته دليلا على عمق التآخي والتعايش بين الطرفين.
وتزامنت المبادرات المشتركة بين أصحاب الديانتين الإسلامية والمسيحية لتخفيف الأعباء على البسطاء مع حالة من الهدوء والاستقرار المجتمعي، لافتة إلى أنها لم تكن مجرد مظاهر أخوية لإطفاء نيران فتنة أو حدث طائفي بين مسلمين وأقباط.
وضاعف هذا التقارب الروحي والإنساني من مصداقية التشارك والمحبة بين المسلمين والأقباط، لأنه لم يهدف إلى تحقيق مآرب سياسية وجاء بمساع من مواطنين عاديين، بينهم قساوسة ورجال دين، لكنه في النهاية جاء مدفوعا بنوايا طيبة لتكريس المحبة.
ويوحي تشارك المسلمين والمسيحيين في توفير الطعام خلال رمضان بأن الشريحة الأكبر في المجتمع قررت فرض التسامح، وهذا فعل بسيط له معان كبيرة، إذ ينسف جهود سنوات مضت عكف فيها متشددون على بث الفرقة بين أبناء العقيدتين.
ورغم الشعور المجتمعي بأن المناسبات الدينية في مصر عاكسة لتلاحم المسلمين والأقباط، لكن لا تزال هناك إشكالية مرتبطة بالمؤسسات الرسمية نفسها، سواء الأزهر أو الكنيسة، حيث يقتصر إظهار التعايش بينهما على الزيارات الرسمية وتبادل التهاني وإصدار البيانات الإعلامية التي تبرز روح التآخي الظاهر.
ويشير التقارب التقليدي بين المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية إلى أن الحكومة نفسها بحاجة إلى سياسة واضحة للتسامح، لأن الخطاب الديني الرسمي الرامي إلى تعزيز المواطنة يفتقد إلى الكثير من مقومات التجديد ويتعامل مع المجتمع بطريقة روتينية.
ويكمن التسامح الحقيقي بين المسلمين والأقباط في أن تكون الأفعال الإنسانية بعيدة عن الحصول على موافقة مسبقة من المؤسسة الدينية، ويتطلب الأمر منح الحرية المطلقة للأفراد للتعايش مع بعضهم دون تشجيع أو تحريم من هنا أو هناك، بحيث لا يصبح التحرك الإنساني منزوع الإرادة أو بحاجة إلى شرعية.
ولا تزال مصر تعاني من غياب الإستراتيجية الواضحة والمحددة التي تسوق للتسامح والتعايش بين المسلمين والأقباط، وكل الديانات، حيث يتم اختزال مضامين التقارب والتآخي في لقاءات وتصريحات مسؤولي الهيئات الدينية، من دون سن تشريعات مدنية تعاقب بقسوة على التمييز والتشدد والخطاب التحريضي.
وتكشف الحالة التي تعيشها مصر في شهر رمضان بين المسلمين والأقباط إلى أي درجة يستطيع هذا المجتمع تجاوز عقبة الانحياز لعقيدة محددة ولو كان يحتضن متشددين، وهو بحاجة إلى مساعدة توعوية وحراك مؤسسي ديني يكرس هذا الواقع، شريطة عدم تسييس التقارب بين الديانات أو اختزاله في المناسبات الرسمية.
وتتحمل الحكومة المصرية جزءا من مشكلة التعامل مع التآخي الإسلامي المسيحي باعتباره حدثا فريدا، لأنها تسوق لذلك سياسيا وتصر على التعامل مع الأقباط في بعض المناصب القيادية بمنطق “الكوتة” أو الحصة أو النسبة، ولا تترك للمجتمع نفسه حرية التعايش بالطريقة التي يريدها ويقبلها.
وطالما استمر إلقاء عبء نشر التسامح والتآخي على كاهل المؤسسات الدينية وحدها سيكون من الصعوبة أن يفضي ذلك إلى نتائج ملموسة على المستوى المجتمعي، بعكس ترك الناس يخططون لهذا التقارب بطريقتهم الخاصة، مثل المساعدات المشتركة بينهم وإقامة موائد الرحمن، وتنشيط التكافل الاجتماعي والصحي.
وبغض النظر عن الدوافع الكنسية من زيادة المساهمات الخيرية على البسطاء خلال شهر رمضان، لكنها أعادت التركيز على غياب إرادة الحكومة في إقصاء المتطرفين من المشهد أو محاسبتهم على الاستمرار في تحقير كل تحرك يساهم في تكريس التعايش والتسامح.
وما يبرهن على ذلك أن التشارك بين المسلمين والأقباط في موائد الرحمن وقيام قساوسة بتعبئة كراتين غذائية داخل الكنائس وتوزيعها على الفقراء خارجها تعرض لفتاوى متشددة تحذر الناس منهم، وتحرض على عدم الانسياق وراء ذلك، لكنه لم يؤثر بقوة في قناعات شريحة معتبرة في المجتمع، مصممة على الاستمرار في المشاركة.
ونشر متشددون عبر منصات التواصل أن توزيع بعض الأقباط للمساعدات الغذائية على المسلمين محاولة جديدة لنشر التبشير بين أفراد المجتمع، في محاولة للعزف على هذا الوتر وتخويف الفقراء بطريقة تؤدي إلى دفع المسلمين إلى الرفض.
وقال عبدالغني هندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لـ”العرب” إن كلما ارتبط التآخي بين المسلمين والأقباط بأبعاد إنسانية كان تأثيره أكبر وأعمق وأكثر مصداقية وتفاعلا عند الناس، خاصة أن المجتمع المصري بدأ يتجاوز عقدة عدم التحرك والتشارك على أساس ديني.
ويتطلب ترسيخ قيم التسامح مواجهة صارمة مع الفتاوى المتشددة التي تحرم التلاقي بين الديانات، لأن المجتمع يمكنه التعايش في سلام شريطة أن تتوقف الرؤى المضللة ويتركز خطاب التسامح على الأجيال الجديدة التي تتسم بالانفتاح والتحضر والعقلانية.
وما زال أصحاب التوجهات المتطرفة يتعاملون مع أي تقارب إنساني بين المسلمين والأقباط على أنه انتكاسة لهم، فهم الذين اعتادوا القيام بتصرفات تستهدف تخريب العلاقة بين الطرفين بالقول أو الفعل، طالما أن الفئة المستهدفة (المسيحيين) تقوم بأفعال مغايرة لما يسوّقون له في خطابهم المتشدد.
وأكد هندي لـ”العرب” أن الشريحة الأكبر بين الشباب المصري باتت لا ترهن علاقاتها المجتمعية بفتوى أو وصاية دينية، وهذا ما زاد من نشر قيم التآخي خلال شهر رمضان وما قبله أو بعده، ويظهر ذلك في المناسبات الدينية الإسلامية والمسيحية، وصارت الغالبية تؤمن بأن العلاقة بين الطرفين أكبر من مجرد تبادل شكلي لرسائل المحبة.
وهناك تسليط إعلامي مقصود على فكرة التلاحم الإسلامي – المسيحي، لكن ذلك لا يكفي لإفساح الطريق أمام المواطنين العاديين لتولي نشر التعايش وقبول الآخر وتوثيق مفاهيم المواطنة الحقيقية، لأن اقتصار تسويق الأمر على النخبة سوف يعطل توفير بيئة عصرية بين الأفراد لتقبل حرية العقيدة وإنسانية العلاقة.