من يقف خلف أزمة المواد الاستهلاكية المدعمة في تونس

لم تعالج عمليات تشديد المراقبة على مسالك توزيع المواد الاستهلاكية ومحاربة الاحتكار والمضاربة في تونس، أزمة فقدان المواد الغذائية الأساسية في البلاد، حيث أصبح المواطن التونسي يعاني من هذه الصعوبات ويتعايش معها بشكل يومي، وهو ما يؤكّد أن أسباب الأزمة أعمق من ذلك بكثير.
تونس - تتواصل أزمة التزوّد بالمواد الاستهلاكية المدعّمة في تونس، في وقت تكتفي فيه الجهات الرسمية بتهديد المحتكرين والمضاربين وضخّ كميات محدودة على فترات في السوق، ما يطرح تساؤلات بشأن حقيقة أسبابها وامتلاك الدولة لخطط واضحة لتفكيكها.
وتعيش الأسواق التونسية نقصا حادا في مادة الزيت المدعم وعدد من المواد الغذائية الأساسية، مما دفع المستهلك في أحيان كثيرة إلى اقتناء الزيوت النباتية غير المدعمة.
ويبدو أن استمرار المشكلة يتجاوز ممارسات الاحتكار والمضاربة الموجودة أصلا في السابق، ففي الوقت الذي تقول فيه الهياكل الرسمية، إن المواد متوفرة في المحلات التجارية والأسواق، تتعالى أصوات المواطنين المتذمرين من عدم الحصول عليها.
وأذنت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية في سيدي بوزيد (وسط) الجمعة بفتح بحث حول ادعاء إحدى شركات تعليب الزيت المدعم بالجهة فقدان كمية من الزيت تقدر بـ18.686 طن، نتيجة عطب في شبكات الربط، وذلك من أجل شبهة المضاربة غير المشروعة وتكوين وفاق بُغية الاعتداء على الأشخاص والأملاك والتحيل وإخفاء ما تثبت به الجريمة وغسيل أموال.
ويثير تواصل فقدان بعض المواد الاستهلاكية الأساسية في الأسواق التونسية، على غرار الزيت والسكر والحليب والقهوة، جملة من التساؤلات لدى المواطنين بشأن جدية السلطات في محاربة الاحتكار ومراقبة مسالك التوزيع.
ويهدّد شح وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية القدرة الشرائية للتونسيين، خصوصا بعدما أصبح الاحتكار ممارسة يومية، وسط دعوات إلى ضرورة تدخل الدولة بحزم ومحاسبة المتسببين في التلاعب بقوت المواطنين. وتستورد تونس سنويّا 165 ألف طنّ من الزيت، بمعدّل 14.500 طنّ شهريّا تتوزّع على 42 وحدة تعليب، تتولّى توزيعها على تجّار التفصيل بأسعار مدعّمة.
ويبلغ سعر اللتر الواحد من الزيت المدعّم 900 ملّيم (0.29 دولار)، فيما يصل سعر شرائه الحقيقي إلى 2356 مليما (أكثر من 0.768 دولار) وفق دراسة أعدّها المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية حول منظومة الدعم. وارتفعت كلفة دعم الزيت من 168 مليون دينار (54.79 دولار) سنة 2015 إلى 480 مليون دينار (156.35 دولار) سنة 2022، وفق أرقام وزارة التجارة.
ويشتكي عدد كبير من المواطنين من تواصل فقدان الزيت المدعم في المحلاّت التجارية والأسواق، مطالبين السلطة بإيجاد حلول عاجلة لهذه الأزمة، في ظل الوضع الاجتماعي الخانق للعديد من الأسر التي يجعلها غير قادرة على شراء الزيت النباتي غير المدعم. ويعمد بعض أصحاب المحلات الغذائية إلى البيع المشروط للزيت المدعم بشراء مواد غذائية أخرى، فضلا عن بيعه خلسة لزبائنهم فقط.
وقال عمّار ضية رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك “ميدانيا الزيت المدعّم لا يصل إلى المواطنين، ويباع بأسعار أرفع بكثير من سعره الحقيقي (من 900 مليم إلى 7 آلاف)، ونبهنا وزارة التجارة إلى أنه من العبث مزيد توريد كميات من الزيت نظرا لوجود طرق ملتوية في توزيعها، وهذا ما يستدعي البحث عن حلول جذرية للأزمة".
وأضاف في تصريح لـ"العرب"، "الاحتكار موجود ولا يمكن نكرانه وزاد ظهور هذه السلوكيات عندما ضعفت مؤسسات الدولة في السنوات الماضية، واليوم نحن نعاني من تبعات ذلك".
وتابع عمار ضيّة "يبدو أنه لم تعد هناك أي فائدة من كل تلك الإجراءات السابقة ويمكن التفكير في توجيه الدعم إلى مستحقيه، لأنه أصبح من المستحيل التغلب على هذه الظاهرة".
وتتزايد الدعوات التي تطالب وزارة التجارة وتنمية الصادرات بالبحث عن حلول جذرية لمعالجة الأزمة، ويذهب البعض إلى ضرورة الترفيع في سعر اللتر الواحد من الزيت لتقليص نفقات الدعم. وتفيد أرقام منظّمة الدّفاع عن المستهلك بأنّ 18 في المئة فقط من الزّيوت المدعّمة تُوجَّه إلى الاستهلاك، فيما تضيع النسبة الأكبر والمقدّرة بـ82 في المئة بين المطاعم ومحلات بيع الفطائر وصانعي الدّهن وصنع الوقود الحيوي.
وقال أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي "لا أعتبر الزيت في تونس مدعّما وهناك كميات توزّع في الخفاء بين المنتجين، والاحتكار والمضاربة ظاهرة موجودة منذ زمن". وأضاف في تصريح لـ"العرب"، "هناك سبب مهم جدا أوصلنا إلى هذه الحالة، وهو ارتفاع نسبة التضخّم المالي من 3 إلى 10 في المئة، منذ سنّ القانون الأساسي للبنك المركزي لأن القانون ذهب في سياسة الصرف المرنة، فتراجعت قيمة الدينار، وزادت كلفة الفائدة من ناحية أخرى وهو ما انعكس على الأسعار".
◙ الدعوات للبحث عن حلول جذرية لمعالجة أزمة الزيت في تونس تتزايد ويذهب البعض إلى ضرورة الترفيع في سعر اللتر لتقليص نفقات الدعم
وطالب الشكندالي وزارة التجارة بـ”ضرورة مراجعة طرق توزيع الزيت المدعّم". وسبق أن عبرت الغرفة النقابية الوطنية لتعليب الزيوت الغذائية عن استغرابها من تحميلها مسؤولية الفقدان التام لمادة الزيت المدعم والاضطراب المتواصل في توزيعه. وأكّد صلاح الدين عبداللطيف نائب رئيس الغرفة أن “بعض المصانع لا تزال متوقّفة عن العمل، بعد القرارات الجديدة لديوان الزيت والمتعلقة بنظام الحصص".
وقال في تصريح لوسائل إعلام محليّة "بعد شهرين ونصف الشهر من فقدان مادة الزيت قام ديوان الزيت بمدّ المصانع بـ58 في المئة فقط من نظام الحصص”، معتبرا أنّ “طريقة تسيير عمليات التوزيع المعتمدة من طرف ديوان الزيت خاطئة، وأدّت إلى التهافت والاحتكار، فضلا عن غياب الرؤية لتزويد السوق".
في المقابل، أكد رئيس الغرفة الوطنية لمعلبي الزيوت الغذائية مختار بن عاشور في وقت سابق أن "أحد المصانع أغلق أبوابه، بينما يقدر عدد المصانع التي في وضعية إفلاس بين 20 و25 مصنعا بصدد دراسة تسريح العمال".
وقال في تصريح إعلامي إن “9 آلاف عامل في حالة بطالة فنية ولم يتمكنوا من تسلم أجورهم، ولم تقدم وزارات التجارة والصناعة والشؤون الاجتماعية أي حل بسبب الأزمة المالية”، مضيفا أنه “ليس هناك احتكار في الزيت المدعم بما أنه غير متوفر في البلاد والدولة غير قادرة على توريده”.
ويقدّر الاستهلاك الشهري للزيت في تونس بـ14 ألف طن وفي رمضان يتم تسجيل زيادة بألفي طن. ويؤمّن الديوان الوطني للزيت (شريك في حلقة التوزيع ووسيط بين وزارة التجارة وتجّار الجملة والتفصيل) حاجة السوق إلى الزيت النباتي، عبر استيراد زيت النخيل وزيت الصوجا الخامّ.