من قال إن العلمانية تلغي الدين

راية العلمانية ليست حلا سحريا، وليس هناك ما يسمى بـ“الحبة السوداء السحرية”، ولا شيء قادر على انتشال المجتمعات من وهنها وتخبطها بأعجوبة. ولن يتم تغيير البرمجة الفكرية للمجتمعات بعصا سحرية. لذا، كثر من يعارضون ويهاجمون ويشككون في كل من ينادي بالعلمانية كحل لكثير من الدول، وخاصة المجتمعات المحافظة التي انتشر فيها الفكر الديني في العقود الأخيرة، بحيث يصبح الجدل عبارة عن حلبة مواجهة بين الفكر الديني والعلمانية.
لكن، بداية، من قال إن العلمانية تلغي الدين؟ ومن قال إن الدين يجب أن يتم عزله عن الحياة الاجتماعية؟ على العكس، في الكثير من الأحيان يكون الدين جزءا لا يتجزأ من الهوية الاجتماعية والثقافية، حيث يلعب دورا في تشكيل القيم والمبادئ. من لديه حساسية من كلمة “علمانية”، فلنحولها إلى “عقلانية”. أو نحمل راية الحل في “الفكرانية”. أي البدء باستخدام العقل والفكر البشري خاصة في المجتمعات التي عطلته على مدار عقود طويلة، لأن الإنسان وحده بقراراته وأدواته وخياراته وفكره من يطور مجتمعه أو ينهيه. فالإنسان بقدراته وفكره ووعيه هو من يحدد واقعه ومستقبله. لذا، ماذا لو استبدلنا العلمنة بالعقلنة؟ ماذا لو كان الحل هو الاحتكام إلى العقل والمنطق والعلم في إدارة شؤون المجتمع بدلا من الصراع الأيديولوجي حول مفهوم العلمانية؟
◄ المنطقة تقف على كف عفريت، خاصة في ظل الطوفان الأميركي – الإسرائيلي الذي غير موازين القوى فيها، وفي حال استمرت الأوضاع الحالية، ربما ستكون أمام موجة من التغيرات الكبرى
العقلنة لا تلغي الدين، لكنها تمنع استغلاله، لا تحارب الإيمان، لكنها تحارب تجهيل العقول. العقلنة لا تعني استيراد نموذج أوروبي جاهز، بل تعني تطوير نموذج محلي مستنير، يراعي خصوصيات المجتمع لكنه لا يبقى رهينة الماضي. حيث هناك حاجة ملحة إلى فهم أعمق للسياسات والعلاقات بين الدول والأفراد، ومحاولة لاستيعاب التنوع الثقافي والفكري العظيم المتواجد بين المجتمعات، في محاولة لتطويع الأدوات والتكنولوجيا لإعادة بناء المجتمعات اقتصاديا، وإيجاد تحالفات مالية، سياسية، فكرية، اجتماعية وأمنية قوية بين الدول بدل التناحر المبني على أسس المصالح أو الدين أو الفكر أو السلطة.
وهذا يقودنا إلى السؤال، هل الدين هو مصدر القوة الفعلية في السياسة؟ القوة الحقيقية في العالم اليوم لا تكمن في الدين وحده، بل في الاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام والإستراتيجيات الذكية. نعم، تُستخدم الروايات الدينية في بعض الأحيان لدعم الخطاب السياسي، كما يحدث في حملات ترامب أو في إسرائيل، لكن هذه ليست القوة الحقيقية. القوة الحقيقية تكمن في التحكم بالسوق، المعرفة العلمية، النفوذ التكنولوجي، وإدارة الإعلام والسيطرة على السرديات الفكرية.
خذ إسرائيل كمثال: تستند في روايتها إلى التوراة في قاعات مجلس الأمن، لكنها تعرف أن ما يحقق مصالحها هو التحالفات السياسية والهيمنة الاقتصادية والتفوق العسكري، وليس مجرد استشهادها بنصوص دينية.
في المقابل، لا تزال الكثير من الدول العربية والإسلامية تعيش في وهم أن الصراعات تُحسم بالدعاء والانتظار، بينما الآخرون يبنون مراكز بحثية، يدرسون عقول خصومهم، ويطورون أدوات السيطرة الفعلية على العالم.
هل المشكلة في الدين؟ ليس بالضرورة. المشكلة الحقيقية هي في استغلال الدين سياسيا واجتماعيا واقتصاديا للهيمنة والسيطرة، كما تفعل إسرائيل وكما تفعل العديد من التيارات السياسية الإسلامية في منطقتنا.
لا أروج للعلمانية كحل، ولا أتبنى شعارات ونماذج غربية جاهزة، إن الأمر يُطرح في محاولة للبحث عن حلول. لذا، إذا كان البعض يرى أن العلمانية ليست جزءا من الحل، فهل هناك بدائل أخرى يمكن أن تُحقق الهدف نفسه دون الصدام الأيديولوجي؟
◄ العقلنة لا تلغي الدين، لكنها تمنع استغلاله، لا تحارب الإيمان، لكنها تحارب تجهيل العقول. العقلنة لا تعني استيراد نموذج أوروبي جاهز، بل تعني تطوير نموذج محلي مستنير، يراعي خصوصيات المجتمع
من الممكن تبني العقلنة التدريجية بدلا من الصدام المباشر، بمعنى يمكن الدفع نحو التفكير النقدي، المنهج العلمي، وترسيخ قيم العدالة والحرية بطريقة لا تستفز المجتمعات التقليدية، لكن من المهم والضروري إصلاح التعليم والإعلام، لأن تغيير وعي المجتمعات يبدأ من هنا، وليس عبر سحق عقول الناس بخطابات شعبوية وشعارات.
وهذا يقودنا إلى ضرورة البدء بمراجعة الموروث الديني بعقلانية وتنقيحه، ليس لهدمه أو التقليل منه، بل لتكييفه مع التطورات التي طرأت على الفكر البشري، وتطور الأدوات وسبل العيش. تجب إعادة تعريف الهوية لشعوب المنطقة بحيث تشمل البعد الفكري والعلمي، وليس فقط البعد الديني أو القومي. إضافة إلى ضرورة البدء بإنشاء تحالفات فكرية، اقتصادية، سياسية واجتماعية إقليمية في المنطقة بدلا من الصراعات المستمرة بينهم، لأن القوي اقتصاديا وسياسيا ورقميا وتكنولوجيا هو الذي يفرض روايته، وليس الذي يرفع شعارات فقط.
وهذا يقودنا إلى أهم سؤال، هل يمكن تحقيق ذلك على أرض الواقع؟ اليوم، في عام 2025، من الضروري أن تبدأ هذه المجتمعات بالتفكير بمنطق جديد، لأنها لا تملك خيارا آخر خاصة في ظل هلاكها ببنيتها المادية، الاقتصادية والخدماتية والأمنية والاجتماعية والسياسية.
المنطقة تقف على كف عفريت، خاصة في ظل الطوفان الأميركي – الإسرائيلي الذي غير موازين القوى فيها، وفي حال استمرت الأوضاع الحالية، ربما ستكون أمام موجة من التغيرات الكبرى، وتحولات حادة غير مسبوقة. لذا، بعد كل الخسائر والوهن الذي أصاب منطقة الشرق الأوسط، يجب البدء بالإصلاح والبناء من نقطة ما. ليس المطلوب هدم كل شيء، بل إعادة تشكيله بعقلانية. فهل يمكن تحقيق ذلك دون الدخول في معارك أيديولوجية عقيمة؟ وهل المجتمع مستعد لفكرة “العقلنة” أكثر من “العلمنة”؟ السؤال مفتوح..