"من عالم آخر" معرض استعادي للفنانة التشكيلية اللبنانية يولاند نوفل

رحلت الفنانة اللبنانية يولاند نوفل، لتترك لنا عالما فنيا مميزا مفعما بالألوان وكأنه عالم آخر، هو عالمها الخاص الذي حررت فيه خيالها الخصب بأسلوب ساذج وبسيط يروي مشاهد من الواقع ويعبر عن موقف شعوري من الأحداث والأزمات المتعاقبة على لبنان.
أقامت مؤخرا صالة “كيووس” في بيروت معرضا استعاديا للفنانة اللبنانية يولاند نوفل التي توفيت في أواخر شهر يناير الفائت. جاء هذا المعرض تكريما لمجمل ما قدمته الفنانة في حياتها ليس فقط لعالم الفن، بل أيضا للطب النفسي والمعالجة من خلال الفن.
قُدّم المعرض تحت عنوان “من عالم آخر”، وهو العالم الذي صورته يولاند نوفل في لوحاتها عبر السنين لحظة اكتشافها شغفها بممارسة الفن تحت وطأة كل المشاغل التي فرضتها عليها مهنتها. ونذكر هنا أيضا أنها كانت من أبرز الباحثات في علوم التربية وبرامجها ومن أهم مؤسسي الجمعية اللبنانية للتربية الفنية.
رحلت الفنانة والأكاديمية اللبنانية يولاند نوفل إلى العالم الآخر تاركة وراءها صورا مشغولة بمواد مختلفة ولوحات ملونة عبرت من خلالها عن عالمها الخاص والخيالي المحاذي لعالم واقعي كثرت فيه الأوجاع وقلّت الأفراح.
ينتمي أسلوبها إلى الفن الساذج، لاسيما إلى الفن الفطري الألماني الذي يعج بالألوان الفرحة، فلم تترك الفنانة أي لون يعتب عليها إلا وأدخلته إلى عالمها. عالم حضرت فيه الألوان الداكنة أيضا، ولكن مع فقدانها لخاصية الحزن أو القلق. فالأزرق الغامق على سبيل المثال يرمز لليل الذي يضيئه القمر، أما الأسود فهو للخطوط التي تكلل الحدود ما بين الأشياء والشخوص المرسومة. وللبني القاتم حضور مهم فهو في العديد من اللوحات لون الحقل الذي نبتت منه كل أنواع الأزهار المرسومة بدقة فائقة والباهرة بحيوية ألوانها والتي تنمو في جوار أشجار دائمة الخضرة وأخرى مُحمّلة بالفاكهة الصيفية الشرق أوسطية. ورغم استطاعة الناظر إلى لوحات يولاند نوفل تبيان فصول مختلفة في لوحاتها، إلا أن الأكثرية الساحقة منها تحتضن في تنوعها فصلا واحدا وهو الحياة وقد تجلت في أزمانها المتعاقبة والمختلفة.
غياب البعد الثالث لصالح أشكال وهيئات لا ظل لها هو أيضا من مميزات لوحات الفنانة اللبنانية الراحلة ومميزات الفن الفطري بشكل عام. أما أكثر ما يلفت في ما قدمته من أعمال هو المبالغة في تصغير أحجام الشخوص والحيوانات والكائنات شبه الأسطورية بالنسبة للمباني التي تذكر بالقرى اللبنانية التراثية وبالنسبة للحقول الزاهرة التي تغص بأشجار ناصعة، وللأزقة التي تتسلل صعودا أو هبوطا في معالم المشهد العام المفتوح والذي نادرا ما يعيد عين المشاهد إلى عنصر واحد على حساب عنصر آخر.
ولا بد للناظر إلى أعمالها أن يتأثر بمعرفته بالخلفية العلمية التي تنتمي إليها الفنانة أي علم النفس العيادي والتنظيري. لذلك سيميل إلى رؤية هذا الفارق الشاهق ما بين حجم الشخوص والأحجام العامة، إلى هشاشة الإنسان في محيطه. غير أن هذه الفكرة ما تلبث أن تختفي لتحل مكانها فكرة أخرى أكثر ثباتا وهي أن هؤلاء الكائنات والشخوص التي تتراقص أو تطير حتى وهي جالسة أو واقفة في مكانها هي في أتمّ الانسجام مع محيطها. إذ يظهر هذا العالم الآخر الذي ترسمه يولاند نوفل حضنا دافئا بألوانه المتوهجة يحصن الشخوص من اجتياح العالم الواقعي الذي تحدث فصوله بمحاذاة عالم الفنانة الخيالي.
تتالى القصص التي ترويها الفنانة. قصص يمكن تشبيهها بنص كتابي متقطع لا بداية واضحة له ولا نهاية. لا غرابة في ذلك. إذ كيف يمكن أن يصحب عالم فردوسي الملامح أي إشارة إلى نهاية الحلم وبداية كابوس أو على الأقل واقع مُحمل بكم هائل من الوهن والألم والخذلان؟
أما الأمر الآخر الذي يميز أعمال الفنانة فهو أننا يمكن وصف معظمها بأنها “تصاعدية” إذا صحّ التعبير، أي إن المشهد الواحد في لوحتها مبني وفق سلسلة من المشاهد السردية التي تتالى فوق بعضها البعض لتذكرنا بالعديد من الأعمال الفنية المنمنمة، حيث تتعاقب الأحصنة الرشيقة والملونة صعودا بخفة لا متناهية نحو رأس الجبل.
آخر معرض للفنانة يولاند نوفل قبل رحيلها هذا العالم كان في صالة “إكزود” في مدينة بيروت قريبا من منطقة “الجميزة”، حيث أمضت سنين حياتها الأرضية. لم يكن معرضها هذا الذي قدمته سنة 2018 الذي ضم 50 عملا إلا تتويجا لبدايتها الفنية حين شاركت في معرض فني سنة 1992.
ولا يخفى على أحد أن فناني التسعينات شكلوا الدفعة الثانية من الفنانين الذين كرسوا نصهم الفني في منتصف الستينات من القرن الفائت. فقد اختصرت أعمالهم على اختلافها الشديد موقفا من الحرب اللبنانية وآثارها شعوريا كان ذلك أو لا شعوريا. منهم من اتجه نحو الغوص في أهوال الحرب بشكل بصري صادم وقلق ومنهم من تسلل إلى الأنفاق الغامضة التي حفرت من تحت عالم بدايات الستينات. العالم الذي بدا مزهرا، ولكنه كان على شفير الانهيار إلى عتمة تلك الأنفاق وإلى عفنها الملوّث. ومنهم من تلقّف نتائج وتداعيات الحرب على النفس والجسد. ومنهم الآخر من لجأ إلى الحلم واستدعى الفرح. ولا شك بأن الفنانة يولاند نوفل هي من المجموعة الأخيرة من الفنانين الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم.
يُذكر أن الفنانة يولاند نوفل من مواليد بيروت 1949، حاصلة على دكتوراه في علم النفس بامتياز من “جامعة الروح القدس” في الكسليك، وإجازة في علم النفس العيادي من “جامعة ليون الثانية” في فرنسا، ودبلوم في علم النفس الفيزيولوجي من “جامعة كلود برنار” في ليون، ودبلوم دراسات عليا في الرسم والتصوير من “الجامعة اللبنانية”.
والراحلة هي أستاذة في “جامعة الروح القدس” وفي كلية التربية في “الجامعة اللبنانية”. ويُذكر أيضا أنها انخرطت في المعالجة بالفن في مستشفى الطب النفسي “لاكروا” في لبنان. وشاركت في العديد من المعارض الجماعية داخل لبنان وخارجه.