منمنمات زجاجية تتحدث لغة السماء

معرض "المدد" للتشكيلية صفية القباني يجسد حلول نغمات السماء ومصابيحها في منمنمات إشراقية مضيئة وزهور زجاجية تعكس شفافية الوجود.
الأحد 2018/05/27
الزهور في انسجامها ترسم عالما نورانيا موازيا

يفيض رمضان بالقيم الروحية والتجليات النورانية التي تغمر الحياة وتنعكس بدورها على الفنون، ويجسد معرض “المدد” للتشكيلية صفية القباني المنعقد حاليا بالقاهرة حلول نغمات السماء ومصابيحها في منمنمات إشراقية مضيئة وزهور زجاجية تعكس شفافية الوجود.

تقاس حساسية الفنون بمدى ملامستها حركة الحياة وتفاصيلها الثرية، ودرجة تفاعلها مع البشر بانسيابية وصدق، وليس هناك أقدر من “الفسيفساء” على تمثُّل القيم الدينية والحضارية والفنية بأسلوب تعبيري مؤثر.

 وأطلقت الفنانة صفية القباني في أحدث معارضها بالقاهرة طاقات الإنسان الروحية مستثمرة نفحات شهر رمضان، لتشكل بأصابعها ألحانا سماوية تتجاوز حدود القيثارة القديمة، وتطلق في الفراغ زهورا زجاجية ومجموعة من التكوينات والمنمنمات المبتكرة المحمّلة بالشحنات الدلالية والتأويلية المكثفة التي تعيد بها اكتشاف الإنسان.

صفية القباني تقترح أعمالا مركبة متعددة الخامات بتقنيات حداثية غير منقطعة الصلة بالموروث
صفية القباني تقترح أعمالا مركبة متعددة الخامات بتقنيات حداثية غير منقطعة الصلة بالموروث

“من الممكن إقامة عالم نوراني من الورود والأضواء والموزاييك”، هذه هي ثيمة معرض “المدد” الذي يحتضنه “غاليري العاصمة” بالزمالك على مدار أسبوعين للفنانة صفية القباني، ويستمر حتى 27 مايو الجاري، مشتملا على فسيفساء ومنمنمات وأعمال مركبة بخامات متنوعة جرت صياغتها بتقنيات حداثية مبتكرة، غير منقطعة الصلة بالموروث.

تقترح صفية القباني (52 عاما)، أستاذة التصوير ومختصة الجداريات والعميدة السابقة لكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، إمكانية صهر الماضي والحاضر معا من خلال لغة بصرية جديدة تعيد بها تشكيل الوجود مثلما تشكل عجينة الزجاج الطيعة، فيتحقق عالمها الموازي السحري بوحداته التي لا تشبه مفردات أخرى.

“المدد”، هو ذلك الزخم الإنساني الذي تضفيه الفنانة على أعمالها، وتستمده من ينابيع النور في المعتقد الديني والموروث الحضاري فضلا عن الصفاء الروحي والقيم الأخلاقية في فلك الانتظام الذي تصوغه، ضاربة في جذور الفنون الفرعونية والإغريقية والرومانية حيث أصول المنمنمات، ومستدعية تطورات الفسيفساء في الفن الإسلامي وحركات الفن الحديثة في عصور لاحقة.

حكايات الورود

تؤسس الفنانة عالمها من الوحدات الزجاجية الصغيرة، التي تحكي بها ألف حكاية لألف وردة تشكلها بواسطة عجينة الزجاج الطيعة التي يسهل تقطيعها وصهرها لتأخذ هيئة الورود الصغيرة الناصعة العامرة بالألق، وتتراص الورود والأشكال في التكوين الجداري الذي يتسع لخامات ووسائط متعددة، ما بين الخشب والسجاد والشباك الممددة والبلاط والخيش وغيرها.

ومثلما تتمرد الجدارية على وضعيتها التشكيلية منطلقة في علاقات تفاعلية خارج قاعة العرض مع البشر الذين تأسر أرواحهم، فإن الزهور الزجاجية تأبى إلا أن تطلق رائحتها كأنها زهور طبيعية مفعمة بالحيوية، كما أن الأشكال الهندسية مثل المثلث والمربع والمستطيل والدائرة تتحرر من أبعادها الحسابية في الأعمال المرنة التي تكسر فيها الفنانة المعايير الجامدة لتوليد المعنى المتواتر المتفجر.

تتحلى الفنانة بوعي معرفي صارخ تذيبه في النسيج التلقائي، فهي أكاديمية مبحرة بدراساتها في فنون الفسيفساء والزجاج المعشق والسجاجيد وغيرها، و”الجداريات” في تجربتها ليست مجرد تكوينات، بل هي ذاكرة الأمة الخصبة، والتصوير الجداري هو ذلك التجسيد للعلاقة الحيوية التفاعلية مع المكان.

فنون الفسيفساء تلك المعنية بالمكعبات والوحدات الصغيرة لزخرفة وتزيين الفراغات الأرضية والجدارية عبر التصاميم المتنوعة الملونة، وتستخدم فيها خامات عديدة، منها الزجاج والحجارة والصدف والمعادن وغيرها، وتتميز الفسيفساء باتساعها للرموز التي لها إيحاءات روحية ودلالات خاصة تتعلق بالقيم الدينية والتراث الشعبي.

استلهام وتصوير النباتات في رحلة استكشاف الجوهري والحقيقي في الوجود
استلهام وتصوير النباتات في رحلة استكشاف الجوهري والحقيقي في الوجود

تعود فنون الفسيفساء إلى السومريين والرومان، وتطورت لدى البيزنطييين في القرنين الثالث والرابع الميلاديين بعد إدخال الزجاج والمعادن، ثم انطلق العرب والمسلمون فصنعوا أشكالا هندسية ورسوما كثيرة زينوا بها الجوامع والقباب وغيرها، وانتقلوا بفلسفة الفن إلى منعطف جديد، هو التعبير عن معنى الحياة وجوهر الوجود، بحيث تتحرر المواد المستخدمة من جمودها، وتتفاعل مع الحراك الإنساني.

ومضات كاشفة

في تجربة التشكيلية صفية القباني، تتجلى الخصوصية التعبيرية من خلال تلك القدرة الفائقة على ترجمة المنمنمات الدقيقة إلى ومضات لونية وضوئية مكثفة، كاشفة، فالشكل بحد ذاته ليس غاية، إنما الطاقة التي تتلبسه، والجوهر الذي يشرق من تحت السطح، كأشعة القمر التي تنفذ من غمامة بيضاء.

هذه الإشراقات والتجليات تكسب الأعمال والتكوينات والوحدات المتجاورة المتراصة طبيعة درامية وحركية، وهكذا هي حكايات الزهور النابضة بالحياة دائما، وتتعدد الشحنات التأويلية والدلالية بتعدد مستويات البنية المركبة للأسطح المتداخلة، فضلا عن المراوحة بين الأضواء والظلال، والأجسام المعتمة والأخرى المشعة.

تتسم عناصر التكوين في أعمال القباني بالمرونة الشديدة، والانسيابية، وإلغاء الإطار، وهذا يلائم آلية الومضات المتلاحقة، والرغبة في تكثيف لحظات حاشدة تختزل ما هو حقيقي أصيل في الوجود، وتستبعد العادي والمجاني الذي لا يليق بالمنمنمات الموصوفة بعناية.

مثل هذه الأبنية، والأخيلة، التي تنتزع عالما جامدا من سياقه، لتضع محله كونا آخر، هي من شأنها خلخلة المفاهيم والتصورات، وتوجيه المدركات الإنسانية إلى مدارات خلاقة ابتكارية، لا مجال فيها للنمطية والالتزام بالثوابت، فالآلة المعروفة المألوفة لا تنتهي معزوفاتها الجديدة المغايرة.

أعمال معرض “المدد”، انفتاح فني وروحي ومعرفي على نوافذ وفضاءات يستعيد فيها الإنسان إيجابيته وبوصلته التي توصله إلى اتزانه.

الانسيابية والمرونة من معالم تجربة القباني
الانسيابية والمرونة من معالم تجربة القباني

 

13