منصور الهبر رسام لبناني يلاحق الأشباح في حياة هشة

قليلة تلك الرسوم العربية التي يمكن وصفها برسوم الحياة الشخصية. فمثلما لم يجر الاهتمام بأدب الاعترافات فإن الرسوم ظلت ملتزمة بموضوعاتها المحايدة التي غالبا ما تكون خارجية وإن اعتقد الرسام أنه عبر من خلالها عن انفعالاته. ليس لدينا ديفيد هوكني مثلا.
الرسام اللبناني منصور الهبر حاول أن يخترق المسافة ليكون ذلك الرسام العربي الذي يصنع من رسومه مرآة لحياته الشخصية أو على الأقل ليومياته التي تضم الآخرين والتي هي رصيده المضمون حين يتذكر أو يلتفت إلى أسلوبه أو طريقته في العيش.
حياة أخرى
“حياة منزلية” هو عنوان معرضه الذي أقيم في بيروت عام 2015. حتى لو كانت تلك العبارة عنوانا لديوان شعر يمكننا أن نتوقع ظهور كائنات بشرية، من خلالها يمكن التعرف على نوع مجهول من الحياة التي تقع في مكان ما. البشر هم الحياة أما المنزل فإنه إضافة. وهو ما سيركز عليه الهبر، لكن بأسلوب هو أشبه بالخلاصة الجمالية.
“ما الذي أردت أن ترسمه؟” إذا سألت الهبر. سيقول لك “الجمال” “ولكن أي جمال”؟ “إنه جمال العيش. أن نلتقي. أن يرى بعضنا البعض الآخر. أن نكون معا” فلا معنى إذاً لمفردات المنزل. الإنسان هو البحر الذي يلتقط الرسام عناصر لوحته منه. ذلك كله لا يمنع الارتجال عن طريق الكولاج “اللصق” ولا يقف ما بين المشهد وبين نتائجه التجريدية.
الهبر رسام تجريدي مثلما هو رسام تشخيصي. لا فرق. في معرضه “الورق المتمرد” عام 2021 بالدوحة يستعيد تجربة الفرنسي هنري ماتيس في قص الورق ولصقه. التقنية فقط لا الأشكال أو الأسلوب. فالرسام لا يتخلى عن هاجسه القديم، الإنسان. إنه في تلك الحالة يرسم بشرا غير أنه لا يعوّل عليهم في خلق تأثير لوحته. إنهم الكائنات التي لا تُرى. ينكر هنا أن يكون رسام مرئيات. ذلك لأنه يقيم حوارا بين الكائنات وموادها. تصلح أن تكون رسومه مرثية لحياة عظيمة عشناها. رسومه تقول إن الحكاية لم تنته وأن هناك فصولا خفية منها لا تزال ممكنة. ولا يزال الرسم ممكنا. لا ينتمي الهبر إلى الأسلوب التعبيري وليست له أي صلة بالرمزية. سيكون عليه أن يستبدل كل شيء بالشعر. كل تحولاته تستمد طاقتها من الشعر. الحياة المفقودة هي شعر.
إعادة اكتشاف العالم
ولد الهبر عام 1970. درس الرسم في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة ونال شهادة الماجستير وبعدها مارس التدريس. أقام عددا من المعارض الشخصية في بيروت ومدن عربية أخرى وكل معارضه تحمل عناوين تشير إلى محتواها والتقنيات المستعملة فيها كما هو حال معرضه “الورق المتمرد”.
في إنشاء لوحاته يجمع الهبر بين الرسم المباشر واللصق “كولاج” وما ينتج عن اللصق والإزالة من ارتجال لوني لن يكون مقصودا دائما، فذلك يحدث بطريقة تلقائية.
يقيم الفنان صلة من نوع خاص بين البشر ومحيطهم. علاقة يغلب عليها التأمل بالرغم من أن هناك دائما ضجيجا لونيا يبدو كما لو أنه قد استولى على كل شيء، غير أن ذلك ليس صحيحا، فالمشاهد البشرية تظل هي الأكثر تأثيرا على العين.
اللحظة الشعرية منزلة بين التشخيص والتجريد، والهبر ماهر في القبض على تلك اللحظة الهاربة من الزمن. هناك الكثير من الشعر في رسومه. الشعر الذي لا تستحضره الكلمات ولا تلخصه. شعر غير قابل للتلخيص لذلك فإنه يثرثر
يشبه الرسام كاتبا قرر أن يكتب وسط ضجيج الحياة اليومية متأملا صورته وحيدا ومستعيدا ذكرياته مع بشر تربطه بهم علاقات حميمة.
رسام مدينة يستعيد هدوءها وفوضاها، صمتها وضجيجها، رقتها وخشونتها. يضيف من خلال المادة البشرية نوعا من خيال الواقع إلى عالمه، أما حين يزيل الورق ويبقي على أثره اللوني فإنه يستخرج من العالم المرئي شيئا مما يُخفيه تحت السطح.
علاقة مركبة بين الكائن البشري ومادة حياته التي تتوزع بين الأشياء. يبدو الإنسان هنا متصلا ومنفصلا في الوقت نفسه. منفصلا بسبب التقنية عما يجري من حوله وهي حياته التي لا يمكنه سوى أن يكون متصلا بها بطرق شتى كأن يستحضرها حلميا أو يتذكرها متأملا ما فقده وذهب إلى خفائه وما احتفظ به بطريقة غير مقصودة.
سيكون علينا دائما أن نتأمل ما فعلناه. ماضي أيامنا التي سبقتنا إلى الغياب. غير أن الرسام يفاجئ نفسه بما يعيد اكتشافه من حياة لم يعشها. وهي الحياة التي تكشف عنها عملية اللصق والإزالة.
بين “حياة منزلية” و”الورق المتمرد” تغير الهبر. هناك منزلة بين التشخيص والتجريد. لا يمزج الرسام في تلك المنزلة بين العالمين، بل يحافظ على المسافة التي تفصل بينهما. وهو في ذلك إنما يسعى إلى أن يحيلنا إلى عالمين مستقلين. كل واحد منهما له ملامحه وسماته وعناصره والأهداف التي يسعى إلى الوصول إليها. غير أنه في الوقت نفسه لا يخفي قناعته بأن العالمين يشكلان صورتين مستعارتين من الحياة التي نعيشها. نحن نفكر بطريقتين ونعيش بطريقتين. فيهما ومن خلالهما نعبر عن قدرتنا على مقاومة تحديات العيش وعن مزاجنا التصويري ونحن نقاوم من أجل التحكم بمصائرنا.
نطارد وهم الحياة
في المسافة التي تفصل بين التشخيص والتجريد يتعرف الرسام على تفاصيل الحياة الهشة وهي حياة عاشها البشر والمدينة على حد سواء في زمن الحرب وفي الزمن الذي هو صنيعة تلك الحرب. أيُقال إنهم بشر مهدمون؟ والمدينة هي الأخرى مهدمة. فهل تقطعت السبل التي تصل بينهما؟ وهما في ذلك إنما يمثلان بالقوة نفسها عالمي الحضور والغياب. لكل طرف منهما حضوره وغيابه. غير أن الرسام يكتفي بحضور البشر أما المدينة فإنه يجردها. سيكون ضغطها ماثلا من خلال الأصباغ التي تقيم مهرجانا لونيا.
لن يتخذ الإنسان من ذلك المهرجان زخرفا لحياته. سيكتفي بالنظر وهو يتلذذ بضآلته، وحيدا وصغيرا في إحدى زوايا اللوحة. من غير أن يتخلى عن الوهم الذي يحركه من الداخل. إنها حياته وقد اكتسبت حواسا أخرى عن حواس الخارج المضطرب.
ما بين التشخيص والتجريد هناك منزلة وهي اللحظة الشعرية. ماهر هو الهبر في القبض على تلك اللحظة الهاربة من الزمن. هناك الكثير من الشعر في رسومه. الشعر الذي لا تستحضره الكلمات ولا تلخصه. شعر غير قابل للتلخيص لذلك فإنه يثرثر.
الهبر رسام وحفار غير أن اللصق سيحمل له تعريفا مختلفا. عالمه التجريدي هو نتيجة مهمة من نتائج اللصق، غير أنها نتيجة غير متوقعة. فاللصق عادة ما يكون بمثابة عودة إلى العالم الواقعي. ذلك ما نفاه الهبر كليا. عالمه يقيم صلة بالواقع بطريقة شعرية. وهي علاقة لا تتضمن مشاهد مستعارة من ذلك الواقع.
أعتقد أن الهبر يرينا واقعا افتراضيا يمكنه أن يتشبث بالأعماق من غير أن يكون له وجود على السطح. ذلك الواقع الذي ستهتز له مشاعرنا من غير أن تتفاعل معه عيوننا إلا في سياق التلذذ البصري. لذلك فإن الصور المستعارة من الواقع لا تحتل حيزا مما يمكن أن يشكل الحياة التي ننتظر صورتها.
ليست صورة الحياة سوى وهم. ذلك ما يمكن أن ينتهي إلى خلاصته الرسام وهو يهدينا يومياته. يهذي بأشعاره التي تقع بين حافتي منطقتين. منطقة له ومنطقة لنا، نحن المتلقين. وفي النهاية فإننا حين لا نلتفت إلى الناس الذين يرسمهم فإن ذلك لا يعني أننا لا نفكر فيهم.
نحن نرى كل شيء مثلما يفعل هو، لكن من خلال تلك الفوضى العظيمة التي تُحدثها الأصباغ.